ولما كان الأمر كذلك فقد اتضح أن التراث الإنساني ليس مقبولاً عندنا قبولاً مطلقاً ولا مرفوضاً كذلك وإنما نأخذ منه ما يوافق عقيدتنا السامية ونطرح منه ما يخالفها.
ورغم كل ذلك فان الواقع الفكري لدينا اليوم يعكس اتجاهات غير مقبولة على الإطلاق وهي:
أ - الانكفاء على الذات:
نقصد بهذا الانكفاء: رفض كل المعارف والعلوم والأفكار بحجة أنها ليست صادرة من قبل علماء المسلمين، ثم العكوف على الذات عكوفاً يكون فيه من التجمد ما فيه؛ وهذا هو ما يهمش دور المسلمين بين أمم العالم ويجعلهم عرضة للانغلاق والانعزال. ولا شك أن عالمية الإسلام التي جاء بها الوحي الكريم تأبى الانكفاء على الذات دون محاولة إيصال نور الله تعالى الذي بين أيدينا إلى كافة الأمم؛ وذلك لا يتأتى إلا بالأخذ والعطاء والتحاور والمشاركة.
ب- الركون إلى تراث الآخر
إنّ من أسوأ الآثار التي ترتبت على ضعف المسلمين وعدم ثقتهم في أنفسهم اليوم- محاولة التقليد الأعمى وأخذ الأفكار الغربية دون تفحص ونظر ودون إعمال عقل وتقليب للأمور. وهذا الاتجاه أمر ملحوظ عند المسلمين اليوم، ولا شيء عند العاقل أقبح من التقليد الأعمى الذي يكون المقلد أول ضحاياه كما لا يخفي. وإذا كان علماؤنا الأقدمون قد رفضوا التقليد الأعمى لفكر العلماء المسلمين دون إعمال العقل فيه فما بالك بتقليد غير المسلمين.
وخلاصة القول هي أنّ الأزمة المعرفية قد نشأت بسبب مصادر المعرفة وأنّ المهمة التي ينبغي أن يقوم بها العلماء المسلمون لتصحيح الوضع تتمثل في التوصل إلى صيغة منهجية ملائمة يمكن بها الجمع بين معطيات الوحي من جهة وبين معطيات الحس والعقل من جهة أخرى في وحدة وتكامل يتبوأ كل منهما مكانه الصحيح دون مغالاة أو تعسُّف.
الخلاصة:
إنّ خلاصة القول في الأزمة المعرفية الغربية والإسلامية المعاصرة يمكن تلخيصها على النحو التالي:
أولاً: إنّ المعرفة الغربية المعاصرة سواء في نشأتها أو في تطورها جاءت وليدة للصراع المرير بين الكنسية والعلماء؛ إذ ظلت المعرفة لقرون عديدة حكراً على الكنيسة وحدها وكان للكشوفات الجغرافية ودخول المنهج التجريبي من العالم الإسلامي لأوربا أكبر الأثر في اضمحلال المعرفة الكنسية وبروز عصر التنوير والنهضة. ولم يكن يقصد بالتنوير سوى إبعاد الدين (الوحي) عن توجيه الحياة والمعرفة على حدٍ سواء.
ثانياً: كنتيجة لإبعاد الوحي عن التوجيه فإنّ المعرفة في عصر التنوير وما تلاه من عصور تميّزت بالإيمان العميق بالعالم الطبيعي على أنه العالم الوحيد الذي يسعد فيه الإنسان، والإيمان العميق بالإنسان على أنه مركز الثقل في العالم، والإيمان بالعقل وحده على أنه الوسيلة الوحيدة التي تضمن السيطرة على العالم وتسخير إمكاناته بالاعتماد على العلم وحده، فالنظرة المادية إلى الكون والإنسان هي سمة الفكر الغربي.
ثالثاً: انعكس ذلك الفهم على العلوم بشقيها الطبيعي والإنساني فتحولت المعرفة إلى معرفة بشرية محصورة في الواقع المحسوس والمشاهد؛ فالمحسوس الذي يخضع للاستقراء والتجربة والقياس هو وحده العلم وما عداه يعتبر هو اللاعلم. ومعنى هذا أنّ موضوعات الدراسة التي تتصل بقطاعات أخرى من الظواهر وتخرج عن نطاق المشاهدة الحسية مهما كانت أهميتها لسعادة الإنسان فهي مستبعدة تماماً عن نطاق الدراسة العلمية وكأنّ عالم المحسوسات هو وحده الذي له وجود حقيقي.
رابعاَ: اسُتبعدت العوامل الروحية والقيم من نطاق الدراسات الغربية وهي قضايا تشكِّل جزءً هاماً من نشاط الإنسان وتفكيره وعاداته وتؤثِّر في توجيه سلوكه، وبالتالي اسُتبعد ما يتولّد عن هذا النشاط الإنساني من علوم وهي علوم قيمية مرتبطة بقيم الإنسان وعقائده.
خامساً: انتهت المنهجية الغربية الوضعية إلى إنكار وجود إله خارج الشعور الجماعي لأفراد المجتمع أو خارج شعور أفراد الإنسانية جمعاء فضلاً عن الاعتراف بموجودات عالم الغيب بما في ذلك اليوم الآخر. وهذه نتيجة طبيعية لعدم الاعتراف بالوحي الإلهي مصدراً من مصادر المعرفة في النظرية المعرفية الغربية.
أما خلاصة القول في الأزمة المعرفية الإسلامية المعاصرة فيمكن إجمالها في الآتي:
¥