ـ[جمال الدين عبد العزيز]ــــــــ[09 May 2009, 04:45 م]ـ
مصدرية الوحي للمعرفةمقدمة:
إنّ المعضلة الكبرى في المعرفة الإنسانية تكمن في تلك الآثار التي خلَّفها استبعاد الوحي عن مضمار المعرفة؛ إذ أعقب ذلك مشكلات منهجية وعقبات معرفية ضخمة. ومن المعلوم أنّ الظروف التي تعرض لها الفكر الغربي فأفضت إلي إلقاء الوحي وراء الظهور إنما هي ظروف في غاية الخصوصية وشديدة التعلق بالفكر الغربي نفسه؛ إذ لم يتعرض العالم الإسلامي لمثل تلك الظروف العصيبة ولم يمر بتلك المحن المعرفية الصعبة أصلاً؛ حيث أنّ العلم والدين في الإسلام مرتبطان ببعضهما أشد ما يكون الارتباط وذلك بخلاف الفكر الغربي الذي شهد صراعاً رهيباً بين رجال الدين ورجال العلم فكانت عاقبة ذلك الصراع أن تم إقصاء الوحي عن مضمار المعرفة، فصار ما لله لله وما لقيصر لقيصر وانحسر الدين واقتصر على الكنسية دون أن يكون له دور فاعل في تشكيل حياة الناس ومعارفهم؛ وبذلك صار المصدر الوحيد للمعرفة-عندهم- هو عالم الشهادة الحسي.
ولما انحسر دور الدين وتم حصر المعرفة في عالم الحس دون عالم الغيب الذي طريق المعرفة به هو الوحي لا غيره - فقد أفضى ذلك إلى خلل منهجي واضح في بناء العلوم وصياغتها، ولم يقتصر هذا الخلل على علم دون علم أو تخصص دون آخر وانما عم جميع العلوم – كما سيأتي، وان كان أثره في العلوم الإنسانية والاجتماعية أكثر وضوحاً؛ حيث أن هذه العلوم قد احتلت المكانة التي كان يحتلها وحي السماء في إرشاد الناس وتوجههم، وهذه العلوم - كما هو معروف - تتعلق بكثير من الأمور الغيبية التي لا تستطيع فيها حيلة أو تهتدي سبيلاً، ولذلك أعلنت هذه العلوم أزمتها وعجزها ليس في عالمنا الإسلامي وإنما في العالم الغربي أيضاً.
والحق أنّ الوحي يفتح أبواب الغيب ويقدم حلولاً لا يمكن الوصول إليها دون الاستعانة به، ولأجل ذلك صارت إعادته إلى مضمار المعرفة ضرورة معرفية اقتضاها تطور العلوم من جهة وعجزها عن حل كثير من المشكلات المستعصية من جهة أخرى كما سيأتي.
وإذا علمنا إن إعادة الوحي إلى مضمار المعرفة ضرورة منهجية ومعرفية -فمن الأهمية بمكان توضيح خصائص هذا الوحي في الإسلام؛ حتى يمكن التعامل معه بصورة منهجية في إطار المعرفة.
أولاً: مفهوم الوحي:
معنى الوحي في اللغة:
الوحي في اللغة يعني الإشارة والكتابة والرسالة والإلهام والكلام الخفي؛ يقال: أوحيت إليه: إذا كلمته بكلام أخفيه
وقد جاء الوحي في القرآن العظيم بمعان لغوية متعددة لم يكن المقصود بها الوحي الإلهي المعروف وهي:
1 - الإشارة السريعة:
ومنها قوله تعالى عن زكريا عليه السلام عندما جعل آيته له هي عدم استطاعته الكلام} فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ ? أي أشار إليهم دون أن يتكلم.
2 - الإلهام الغريزي للحيوان:
ومنه قوله تعالى} وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ?
3 - الإلهام الفطري للبشر:
ومنه قوله تعالى} وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ?
4 - وسوسة الشياطين:
ومنه قوله تعالى} وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ?
5 - ما يلقيه الله تعالى للملائكة ومنه قوله تعالى} إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ?
المعنى الاصطلاحي للوحي:
إنّ المعنى الاصطلاحي الذي نقصده ونهدف إليه في دراستنا هذه هو ما يلقيه الله إلى أحد أنبيائه ورسله؛ نحو إنزاله القرآن على سيدنا محمدصلى الله عليه وسلم وإنزاله الإنجيل على سيدنا عيسى عليه السلام وإنزاله التوراة على سيدنا موسى عليه السلام وإنزاله الزبور على سيدنا داود عليه السلام.
ولا شك أنّ الجانب الذي يهمنا في هذه الدراسة هو ذلك الوحي المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إذ أننا -وإن كنا نؤمن بكافة الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- إلا أننا نجد عملياً أن تلك الكتب قد تغيرت عن أصلها الأول الذي أنزلها الله بها واعتراه من التبديل والتغيير ما اعتراها؛ ولأجل ذلك لا يمكن الاعتماد عليها.
¥