بل التحدي واقع على البشرية منذ أول آية من القرآن؛ لأن بني إسرائيل تحكموا في أمر الرسالات وأشاعوا بأن الله لا يبعث رسولاً من بعد أنبئائهم ومن ذلك: (فلما هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً)، وأن لا يكون رسول بعد عيسى المسيح، وأن لا يكون النبيء مبعوثاً من العرب .. أليس هذا تحدياً يقابل بتحد مثله؟؟ .. وهذا دليل من التاريخ.
2) العجز الحاصل من رؤية المعجزة (من حيث هي معجزة خارقة) أو سماعها = شيء .. واكتشاف وجه الإعجاز أو تفسيره = شيء آخر .. الأول قطعي الثبوب متواتر الأثر مدرك في كل زمان .. أما اكتشاف وجه الإعجاز أو تفسيره فأمر اجتهادي يدور بين الصواب والخطأ .. والحجة مع الدليل الكاشف لوجه الإعجاز .. وما زالت العلوم البشرية في تطور في البحث والاكتشاف (سنريهم آياتنا) .. ومازال كتاب الله كما هو.
وهل الوجوه البلاغية التي اكتشفت في القرآن هي الحق في تفسير المعجزة البيانية العالمية أم هي اجتهاد يدور صاحبه بين الأجر إن أخطأ في وصف مظاهر العجز والأجرين إن أحسن في وصف ذلك العجز؟ ..
ثم المعجزة أمر خارق للعادة والقانون .. ومدارك الإنسان وتفسيراته رهن بالاعتياد على جريان القانون .. فهو يصفها بالنسبة لمداركه المختلفة .. وما عليه من سبيل في تأمل تلك القدرة الهائلة التي خرقت القوانين ومحاولة تفسيرها بما يرى من فرق بين الاعتياد الذي يعرفه والخرق الذي يشاهده .. (وذلك إذا انعدم النص الصحيح الصريح الذي يفسر) ..
3) لا يصح إخراج المعاني (المضامين) من مناط الإعجاز؛ لأن دخولها فيه من باب الأولى .. وأظن أن هذا قول نشأ عن الفصام بين علوم العربية وآدابها وعلوم الحياة، وتضييق معنى البيان بالبيان اللغوي المجرد المفصول عن معانيه الموصولة بالحياة = أمر حادث على السليقة العربية، فالبيان إظهار ما في النفس، وهو بذلك يكون متعدد الأوجه.
4) انبنت الآيات القرآنية على مفهوم التحدي الملازم للآية (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) .. وهي آيات تستغرق بمفهومها القرآن كله وتمتد مع الزمان كله .. حتى كان العجز عن إتيان البشر بأسرهم بمثله هو الأصل وغيره هو الفرع، ولا دعوى! .. (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين).
5) من أوجه دخول المعاني (المضامين) في محل الإعجاز أن الإتيان بها أبعد منالاً من الإتيان بألفاظه المجردة، ووقوع العجز عن الإتيان باللفظ يفضي إلى العجز عن الإتيان بمعانيه، كما يفضي العجز عن القريب إلى العجز عن البعيد.
وقوله تعالى: (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) لا دلالة فيه على ان الإعجاز المعنوي (المضامين) خارج عن دائرة التحدي؛ لأسباب:
أ- أن هذه الآية جاءت رداً على من زعم أن القرآن قول افتراه النبي الأمين عليه الصلاة والسلام: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) .. فورودها ههنا من قبيل المقابلة أو التنزل .. وهي من التحدي .. ولكنها ليست كل التحدي.
ب- أن هذه الآية - وإن كانت مكية - ليست وحدها في هذا الموضوع .. بدليل مجيئ التحدي - في القرآن المكي - بسورة منه (سورة يونس) أو حديث مثله (سورة الطور) .. فضلاً عن القرآن المدنيّ (سورة البقرة).
ج- عدد السور المفتريات المتحدى بها عشر سور، وهو لا ينطبق مع الآيات التي تتحدى الناس بسورة من مثله .. فدل ذلك على أن المضامين الحقة المنظومة في كلمات في سورة واحدة داخلة مثل السور المفتراة التي لا تقبل إلا إذا كانت عَشراً.
النتيجة أن هذه الآية ليست نصاً في إخراج المعاني (المضامين) من محل الإعجاز المتحدى به.
والله أعلم
ـ[مرهف]ــــــــ[11 Feb 2010, 08:38 م]ـ
إن كان مناط معرفة الإعجاز هو التمكن بأساليب العرب في الكلام ليدرك الإعجاز القرآني، فهل يستطيع أحد أن يأتي بشعر من معلقات الشعر العربي يقول بأن هذا الشعر بليغ ويشرح ذلك بدون أن يتطرق إلى المعنى والمضمون، وهل يستطيع أديب أن يكتب مقالاً قويا في البناء والسبك دون أن يعطي للمعنى اعتباراً وللعلوم مكاناً، فإذا كان هذا غير مقبول في حق البشر، فكيف يقبل أن يكون إعجاز القرآن في النظم والبناء دون اعتبار المعنى والمضمون، وهو كلام خالق كل شيء، والله أعلم.