ثم أنزل الله في العهد المكي قوله في سورة (السجدة / 32مصحف / 75نزول):
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)}
هذه نصوص ثلاثة تحكي واقعاً سيتكرر حصوله في أزمنة ثلاثة:
فالكافر حينما يوقف على النار يوم الدين يتمنى أن يُردًّ إلى الدنيا ليكون من المؤمنين، ولكن لا يستجاب لأمانيه، فقد انتهى دور الامتحان، وجاء دور الجزاء.
وهذا الموقف هو ما جاء بيانه في سورة الأنعام.
والكافر عند الموت يقول: " رب ارجعونِ لعلي أعمل صالحاً فيما تركت" فيُرفض طلبه مع زجر، وهذا الموقف هو ما جاء بيانه في سورة المؤمنون.
والكافر في موقف الحساب يوم القيامة يقول مثال مقالته عند الموت، ولكن لا يلتفت إلى طلبه، لقد سبق أن رفض طلبه هذا.
وهكذا نلاحظ في هذه النصوص الثلاثة أنه لا تكرير فيها، لأن كل نص منها يتحدث عن موقف من المواقف، يضاف إلى ذلك قاعدة التكامل في هذه النصوص، ففي كل واحد منها دلالات انفراد بها كما، فيها تأكيد أصل فكرة الموضوع.
وقد أوفيت استيعاب نصوص هذا المثال مع شرحها في قاعدة تكامل النصوص القرآنية في الموضوعات التس اشتمل عليها القرآن المجيد، ويجد القارئ هنالك عدة أمثلة منها (1) (انظر الصفحات من (77ـ 82) من القاعدة السادسة.
* * *
رابعاً:
ومن أغراض التكرير قصد هدف من الأهداف التي يرمي إليها النص في كل مرة، لأن المناسبة استدعت قصد الهدف.
فمن النصوص البيانية ما له عدة أهداف، فيؤتى به في سياق ما لهدف منها، وفي سياق آخر لهدف آخر، وفي سياق ثالث لهدف ثالث، وهكذا.
إنَّ السياق مثلاً قد يستدعي الاستشهاد بجانب من جوانب قصة موسى مع قومه، فيؤتى بلمحات أساسيات منها،مع إبراز ما استدعاه هذا السياق الثاني،ليكون شاهداً أو عبرة للموضوع الذي جيء بالقصة من أجله.
وهكذا. فالقصة الواحدة قد يستشهد بها في عشرات من المناسبات المختلفة، إذْ فيها لكل مناسبة ما يصلح شاهداً أو عظة أو عبرة.
فلتمطين قلب الرسول والمؤمنين يؤتى بقصة موسى المنصور على فرعون وجنوده بتأييد الله لمن آمن معه.
ولخلع قلوب الجبابرة وجنودهم يؤتى بقصة موسى المنصور على فرعون وجنوده بالغرق ,
ولبيان دعوة الجبارين في الأرض إلى دين الله يؤتى بقصة فرعون موسى ودعوته لفرعون، وما جرى بينهما من مناظرات.
ولبيان سنةٍ من سنن الله في إمهال الذين كفروا وطغوا في الأرض، مع معالجة تأديبهم بالآيات والعقوبات الجزئية، يؤتى بقصة موسى مع قومه، وكيف تتابعت على قومه الآيات التسع.
وهكذا إلى غير ذلك من أهداف تستدعيها المناسبات، وهي أغراض تربوية، يظهر فيها توجيه الاهتمام في المرحلة التربوية للعناصر الملائمة لها من القصة.
* * *
خامساً: ومن أغراض التكرير متابعة الجرعات الدوائية، ويظهر هذا نصوص الأمر بالتقوى، وفي نصوص الترغيب والترهيب، وفي النصوص المبينة لأسس الاعتقاد الإيمانية، بغية تثبيتها وتمكينها.
فقد تستدعي الحكمة التربوية مع توجيه تكليف جديد تكرير التذكير بالتقوى، وتكرير الترغيب والترهيب، وتكرير ربط ذلك بما يوجبه الإيمان أو يستدعيه.
* * *
سادساً: ومن أغراض التكرير تحقيق جوانب بلاغية في النص، وهي لا تتحقق إلا بالتوزيع، إذْ تعرض الفكرة الواحدة بصور بلاغية مختلفة، مع مطابقة مقتضى الحال في كل منها.
وبذلك يتحقق الإعجاز التكاملي في القرآن المجيد، ومنه رواية القصة الواحدة بعبارات قليلات، وعبارات متوسطات الطول، وعبارت أطول، وفي مناسابات متعددات، وفي سور متابعدة التنزيل، وفي أزمنة مختلفة، دون أن تتعرض إلى اختلاف، بل تتكامل فيما بينها تكاملاً عجيباً، ومثل هذا لا يكون من بشر، لو كان من عند الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً.
* * *
الخلاصة: هكذا تكشفت لنا ستة أغراض التكرير في القرآن المجيد، مع تحقيق التأكيد لأصل الموضوع الذي تكررت فكرته، وقد يكتشف المتدبر المتتبع لأيات القرآن أغراضاً أخرى، كلها جديرة بالاعتبار، وبأن تقصد في كتاب عظيم معجز، فيه بيان، وتعليم، وتربية، وهداية، وتكاليف يحسن فيها التدرج، ووعد، ووعيد،وإنذار وبشارة، وجمع متشابك لهداية الناس أجمعين، وتوجيههم للصراط المستقيم، مع ما فيه من إقناع وجدليات، وغير ذلك من علوم إنسانية ونفسية،ومعارف عن الكون والوجود، والمبدأ، وواجبات رحلة الحياة، والمصير.
فمهما أمكن استبعاد فكرة التكرير لمجرد التأكيد كان ذلك هو الذي ينبغي تدبر القرآن بمقتضاه.
والبحث والتعمق في التأمل وإمعان التدبر، أمور كفيلة ـ بتوفيق الله ـ أن تكشف للفكر روائع جديدة في كتاب الله الحكيم، لم يسبق للمتدبرين أن تنبهوا لها.اهـ
(من كتاب قواعد التدبر الأمثل من صـ 307: 315 بحروفه)
¥