(4) فاعلم أن صاحب الإتقان نظر في هذه المسألة من جهة رفع الاختلاف إذا وقع في روايات سبب النزول. ولكن هذه المسألة في غاية الأهمية سواء وقع الاختلاف في سبب النزول أم لم يقع، لأن بيده زمام التأويل. ومعنى القرآن لابد أن يكون مأخوذا من مآخذ مسلمة وإلا كيف يصح الاعتصام به وكيف تتفق كلمة الأمة في مدار أمرهم. ألا ترى الناس لم يختلفوا في شئ كاختلافهم في تأويل القرآن، أفليس هذا داءاً عظيماً. فإن كان داءا فماذا دواؤه؟ ولا أرى ذلك إلا شدة الاحتياط في ذلك، فليكن الاعتماد على أصلين:-
(أ) لا يعتمد إلا على رواية صحيحة.
(ب) يستخرج شأن النزول من سياق الكلام ونظمه…
وإذ قد علمنا أن الروايات في هذا الباب أكثرها من جنس الاستدلال رددنا الأمر إلى هذين الأصلين سواء كان هناك اختلاف في الروايات أو لم يكن، وسواء كان في الباب رواية أو لم يكن. فإن قلت كيف بك حين تجد التصريح بواقعة مع بيان أن الآية نزلت حينئذ. قلنا إذا كانت الرواية ثابتة أخذنا بها، وهذا هو الأصل الأول وذلك لا يخالف الأصل الثاني أبدا. وعلى فرض خلافه للأصل الثاني فإن وجد فذلك ربما يؤول إلى ظن من سمع النبي يتلو الآية فظن نزولها في ذلك الوقت، لما أنه سمعها أول مرة. وذلك هو الوجه السابع الذي ذكره السيوطي رحمه الله وعول فيه على الرواية. ولكنك إن تأملت في أكثر الأمثلة علمت أنها منه وإن لم تصرح به رواية. وها أنا أورد بعض الأمثلة مما ذكره السيوطي رحمه الله تحت وجوه أخر، ونشير إلى كونها من باب ما يرفع فيه الاختلاف بالوجه السابع.
أنهم حاولوا رفع الاختلاف بين روايات تبين أسباب النزول وإنّا نريد ان نرفع الاختلاف بينما يظهر من نظم القرآن وبينما روى في الاخبار ونريد أن نعتصم بنظم القرآن ونرد الرواية إليه لا نؤوّل القرآن إليها.
المثال الأول - قال السيوطي رحمه الله: "الحال الرابع أن يستوى الإسنادان في الصحة فيرجح أحدهما بكون راويه حاضر القصة أو نحو ذلك من وجوه الترجيحات.
مثاله ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود قال: كنت أمشى مع النبي بالمدينة وهو يتوكأ على عسيب فمر بنفر من اليهود فقال بعضهم لو سألتموه، فقالوا حدثنا عن الروح، فقام ساعة ورفع رأسه فعرفت أنه يوحى إليه حتى صعد الوحى ثم قال: (قل الروح من أمر ربي وما أو تيتم من العلم إلا قليلا) [سورة الإسراء /85].
وأخرج الترمذي وصححه عن ابن عباس قال قالت قريش لليهود أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل، فقالوا اسألوه عن الروح فسألوه، فأنزل الله: (ويسألونك عن الروح) الآية. [سورة الإسراء /85]
فهذا يقتضي أنها نزلت بمكة، والأول خلافه.
وقد رجح بأن ما رواه البخاري أصح من غيره، وبأن ابن مسعود كان حاضر القصة. انتهى قول السيوطي رحمه الله.
فاعلم أن سورة بني إسرائيل مكية رواية وشهادة بينة من نفس آياتها، وإنما رأى ابن مسعود أن النبي قام ساعة وأطرق رأسه متذكراً لآية فيها جواب السائل، فإذا تذكر رفع رأسه وتلا الآية، فظن ابن مسعود أنه أوحى إليه.
وإن شئت قلت إن الله تعالى ذكره تلك الآية بالوحى. ولكن البحث في أن الآية هل نزلت أول مرة عند سؤال هؤلاء اليهود. فكون ابن مسعود حاضر القصة لم يزد شيئا خلاف ما روى عن ابن عباس.
ثم ليس في قول ابن عباس ما يدل على أنه علم بطريق السمع أن قريشا سألوا اليهود، بل أقرب الأمر أنه استنباط منه. فإن السورة مكية ولم يكن اليهود كثيرا في مكة بيد أنهم كانوا يحضرون موسم الحج وأن قريشا كانت تلاقيهم في تقلبهم في الشام واليمن. وكانت من عادة اليهود الولوع بما لا طائل تحته من المسائل الخارجة عن مدارك العلماء، كما صار ذلك من عادة المسلمين بعد خلاطهم بهم وبأمثالهم.
وأما قريش فكانوا أصحاب الأعمال النافعة لا الأقوال الفارغة. فظن ظنا صائبا ان قريشا أخذوا هذا السؤال عن اليهود.
ولا شك في أن النبي سئل به قبل نزول هذه السورة.
وأما أن هذه الآية نزلت حين ما سألوه فلا حجة على ذلك كما أنه لا حجة على أن السائل قريش أو اليهود، ولا حاجة إلى القطع بذلك. ولكن ترى أن تصريح ابن مسعود لا يرجح على استنباط ابن عباس لمحض كونه حاضر القصة.
ثم ههنا ليس الإسنادان على درجة واحدة من الصحة. وإذ ليس لتأويل الآية حاجة إلى تعيين السائل والوقت فأي داعية إلى الاشتغال به.
¥