تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أحببت أن أسير بإذن الله على أجزاء القرآن الكريم، ذاكرا ما يظهر لي من إشكال، ثم أتبعه بجوابه مكتفيا بتفسير الأمام ابن عاشور ومتصرفا بكلامه، وإذا أردت ذكر فائدة فأسبقها بكلمة: (فائدة).

الجزء الأول

لماذا اهتم القرآن في هذه السورة (سورة البقرة) بتوجيه الخطاب إلى بني إسرائيل؟

لأنهم أمثل أمة ذات كتاب مشهور في العالم كله، وهم الأوحداء بوصف (أهل الكتاب) من المتكلمين باللغة العربية الساكنين المدينة وما حولها، وهم أيضا الذين ظهر منهم العناد والنواء لهذا الدين.

والفِرَق المعرضة عن القرآن تنحصر في صنفين: إما مشركين أو متدينين (أي: كتابيين) والمنافقون يدخلون في الثاني، فوعظ المشركين بقوله: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم ... ) الآيات، ثم ثنى هنا بتوجيه الخطاب إلى أهل الشرائع والكتاب، فبهذا تتم موعظة جميع أصناف الفرق المعرضة.

قوله تعالى: (وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم) ما هو عهدهم الذي وعدهم الله به؟ ولماذا سماه عهدا؟

عهدهم الذي وعدهم الله به هو الثواب في الآخرة والنصر في الدنيا، وهو استعارة تمثيلية بأن شبه الهيئة الحاصلة من قولهم لما أمرهم الله به وأن لا يقصروا في العمل ومن وعد الله إياهم على ذلك بالثواب بهيئة المتعاهدين على التزام كل منهما بعمل للآخر ووفائه بعهده في عدم الإخلال به فاستعير لهذه الهيئة الكلام المشتمل على قوله: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} وبهذا يتبين وجه استعمال لفظ العهد الثاني في قوله تعالى: {أوف بعهدكم} وتقربه المشاكلة.

لطيفة: من لطائف القرآن في اختيار لفظ "العهد" للاستعارة هنا لتكليف الله تعالى إياهم: أن ذلك خطاب لهم باللفظ المعروف عندهم في كتبهم، فإن التوراة المنزلة على موسى عليه السلام تلقب عندهم بـ"العهد" لأنها وصايات الله تعالى لهم، ولذا عبر عنه في مواضع من القرآن بالميثاق، وهذا من طرق الإعجاز العلمي الذي لا يعرفه إلا علماؤهم وهم أشح به منهم في كل شيء بحيث لا يعرف ذلك إلا خاصة أهل الدين فمجيئه على لسان النبي العربي الأمي دليل على أنه وحي من العلام بالغيوب.

ما مناسبة قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذي هادوا والنصارى ... ) الآية لما قبلها وما بعدها؟

توسطت هاته الآية بين آيات ذكر بني إسرائيل بما أنعم الله عليهم وبما قابلوا به تلك النعم من الكفران وقلة الاكتراث، فجاءت معترضة بينها لمناسبة يدركها كل بليغ وهي أن ما تقدم من حكاية سوء مقابلتهم لنعم الله تعالى قد جرَّت عليهم ضرب الذلة والمسكنة ورجوعهم بغضب من الله تعالى عليهم، ولما كان الإنحاء عليهم بذلك من شأنه أن يفزعهم إلى طلب الخلاص من غضب الله تعالى؛ لم يترك الله تعالى عادته مع خلقه من الرحمة بهم وإرادته صلاح حالهم فبين لهم في هاته الآية أن باب الله مفتوح لهم وأن اللجأ إليه أمر هين عليهم وذلك بأن يؤمنوا ويعملوا الصالحات، ومن بديع البلاغة أن قرن معهم في ذلك ذكر بقية من الأمم ليكون ذلك تأنيساً لوحشة اليهود من القوارع السابقة في الآيات الماضية وإنصافاً للصالحين منهم، واعترافاً بفضلهم، وتبشيراً لصالحي الأمم من اليهود وغيرهم الذين مضوا مثل الذين كانوا قبل عيسى وامتثلوا لأنبيائهم، ومثل الحواريين، والموجودين في زمن نزول الآية مثل عبد الله بن سَلاَم وصهيب، فقد وفَّت الآية حق الفريقين من الترغيب والبشارة، وراعت المناسبتيْن للآيات المتقدمة مناسبةَ اقتران الترغيب بالترهيب، ومناسبةَ ذكر الضد بعد الكلام على ضده.

في قوله تعالى: (وإن يأتوكم أسارى تفادوهم .. ) لماذا ذُكر هذا ضمن ما ذُم به بنوا إسرائيل من إخلاف الميثاق؟

ليس فداء الأسير بمذموم لذاته، ولكن ذمه باعتبار ما قارنه من سبب الفداء، فحَمْل التوبيخ هو مجموع المفاداة مع كون الإخراج محرماً وبعد أن قتلوهم وأخرجوهم. ففي قوله: {وهو محرم عليكم إخراجهم} تشنيع وتبليد لهم إذ توهموا القُربة فيما هو من آثار المعصية أي كيف ترتكبون الجناية وتزعمون أنكم تتقربون بالفداء وإنما الفداء المشروع هو فداء الأسرى من أيدي الأعداء لا من أيديكم فهلا تركتم موجب الفداء؟

وفي الآية دلالةً أن القُربة لا تكون قربة إلا إذا كانت غير ناشئة عن معصية.

فائدة: ظهر لي في مناسبة قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) مع الآيات التي قبلها، أن فيه تحذير من مشابهة الكفار في أي شيء، والتنفير من سبيلهم، فالتنبيه على مخالفتهم بدقيق الاقوال دليل من باب أولى إلى مخالفتهم فيما هو وراء ذلك من سائر الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.

فائدة: في ذكره تعالى لأحوال الأمم السابقة، وقصه لنا ما حدث مع الأنبياء السابقين، وما وصى به إبراهيم ويعقوب عليهما السلام، وغير ذلك كله مما يبعث في نفس المؤمن الطمأنينة ويشعره ببرد اليقين بهذا الدين العظيم، وأنه دين الأمم الصالحة من قبلنا، وهو الدين الذي كتبه الله وارتضاه لخلقه أجمعين، فيستشعر المؤمن أنه سائر في طريق واحدة قد سار فيها كل من سبقه من الأنبياء والأولياء وعباد الله الأتقياء، فيزداد يقينا وثباتا ورضا واطمئنانا بهذا الدين العظيم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير