وقوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: 28] الآية.
وهذه التقوى، التي دلت الآيات، على أن الله يعلم صاحبها، بسببها ما لم يكن يعلم، لا تزيد على عمله بما علم، من أمر الله وعليه فهي عمل ببعض ما علم زاده الله به علم ما لم يكن يعلم.
وقد بينت آيات عديدة آثار التقوى في العاجل والآجل.
منها في العاجل قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق: 4]، وقوله: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3]، وقوله: {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله} [البقرة: 282]، وقوله {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128].
أما في الآجل وفي الآخرة، فإنها تصحب صاحبها ابتداء إلى أبواب الجنة كما في قوله تعالى: {وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73]، فإذا ما دخلوها آخت بينهم وجددت روابطهم فيما بينهم وآنستهم من كل خوف، كما في قوله تعالى {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67]، {ياعباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الذين آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ ادخلوا الجنة أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف: 68 - 70] إلى قوله: {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ} [الزخرف: 73] إلى أن تنتهي بهم إلى أعلى عليين، وتحلهم مقعد صدق، كما في قوله تعالى: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} [القمر: 54 - 55].
فتبين بهذا كله منزلة التقوى من التشريع الإسلامي وفي كل شريعة سماوية، وأنها هنا في معرض الحث عليها وتكرارها، وقد جعلها الشاعر الساعادة كل السعادة كما في قول لجرير:
ولست أرى السعادة جمع مال ... ولكن التقي هو السعيد
فتقوى الله خير الزاد ذخرا ... وعند الله للأتقى مزيد
والتقوى دائماً هي الدافع على كل خير، الرادع عن كل شر
... يدعو المؤمنين إلى تقوى الله في النهاية؛ ويذكرهم بأن الله هو المتفضل عليهم، وهو الذي يعلمهم ويرشدهم، وأن تقواه تفتح قلوبهم للمعرفة وتهيىء أرواحهم للتعليم، ليقوموا بحق هذا الإنعام بالطاعة والرضى والإذعان:
وقل صاحب الوسيط: قال: {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
أي: واتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فهو - سبحانه - الذي يعلمكم ما يصلح لكم أمر دنياكم وما يصلح لكم أمر دينكم متى اتقيتموه واستجبتم له، وهو - سبحانه - بكل شيء عليم لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
قال السعدي: واستدل بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} أن تقوى الله، وسيلة إلى حصول العلم، وأوضح من هذا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} أي: علما تفرقون به بين الحقائق، والحق والباطل. إن لم تكن جوابا فهي ظل للمعنى
ذكر السيوطي في الدر المنثور:"
عن سفيان قال: من عمل بما يعلم وفق لما لا يعلم.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم».
وأخرج الترمذي عن يزيد بن سلمة الجعفي أنه قال «يا رسول الله إني سمعت منك حديثاً كثيراً أخاف أن ينسيني أوّله آخره، فحدثني بكلمة تكون جماعاً قال: اتق الله فيما تعلم».
وأخرج الطبراني في الأوسط عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من معادن التقوى تعلمك إلى ما علمت ما لم تعلم والنقص والتقصير فيما علمت قلة الزيادة فيه، وإنما يزهّد الرجل في علم ما لم يعلم قلة الانتفاع بما قد علم».وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التقوى عن زياد بن جدير قال: ما فقه قوم لم يبلغوا التقى.
وأخرج أبو الشيخ من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «العلم حياة الإِسلام وعماد الإِيمان، ومن علم علماً أنمى الله له أجره إلى يوم القيامة، ومن تعلم علماً فعمل به فإن حقاً على الله أن يعلمه ما لم يكن يعلم».
كل هذه مأثورات تعضد بعضها بعضا في ربط العلم بالتقوى
وعلى هذا أقول: ما تم تحريره يؤكد أن التقوى سبب رئيس لفيوضات علم الله على العبد التقي الصالح وإن كان ابن جزي ـ رحمه الله رفض ما تقدم صناعة، فإن غيره قبل عين ما رُفض من ناحية المضمون والمعنى.
ولا يفوتني أن اتقدم بشكرى للأخوة الفضلاء حسب الترتيب " عمارة وحجازي و متبعة ".
والموفق من وفقه الله تعالى.
¥