تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وكذلك الحاجة إلى علم العربية، فإنّ الإعراب هو الفارق بين المعاني. ألا ترى أنّ القائل إذا قال: "ما أحسن زيد" لم يفرّق بين التعجب والاستفهام والذمّ إلا بالإعراب؟!.

وكذلك إذا قال: "ضرب أخوك أخانا" و"وجهُك وجهُ حُرّ" و"وجهُك وجهٌ حرٌّ" وما أشبه ذلك من أنه قال: "أعرِبوا القرآن". وقد كان?الكلام المشتبه. هذا وقد روي عن رسول الله الناس قديمًا يجتنبون اللحن فيما يكتبونه أو يقرءونه اجتنابهم بعض الذنوب. فأمّا الآن فقد تجوزوا حتى إنّ المحدِّث يحدّث فيلحن. والفقيه يؤلف فيلحن. فإذا نُبها قالا: ما ندري ما الإعراب وإنما نحن محدِّثون وفقهاء. فهما يسران بما يُساء به اللبيب.

ولقد كلمت بعض من يذهب بنفسه ويراها من فقه الشافعي بالرتبة العليا في القياس، فقلت له: ما حقيقة القياس ومعناه، ومن أي شيء هو؟ فقال: ليس عليّ هذا، وإنما عليّ إقامة الدليل على صحته. فقل الآن في رجل يروم إقامة الدليل على صحة شيء لا يعرف معناه، ولا يدري ما هو. ونعوذ بالله من سوء الاختيار (13).

المعنى عند إطلاقه يشمل جميع المعاني من لغوية، وعرفية، واصطلاحية، ووضعية، واستعمالية، وعند تقييده بوصف أو إضافته إلى شيء ما ينصرف مقيَّدًا إلى معنًى خاصٍّ أو متعلّق بذلك الشيء، فإذا قلنا: المعاني اللغوية أو المعجمية انصرف الذهن إلى اللغة أو المعجم، وإذا قلنا: معانٍ فقهية انصرف إلى الفقه، وإذا قلنا: معانٍ بلاغية انصرف الذهن إلى البلاغة، وتعلّق بها، وإذا قلنا المعاني النحوية انصرف إلى النحو مفرداتٍ، وأبنية، وتراكيب، وأساليب، وأحكام، ومصطلحات، فهو بهذا الوصف اختصّ بالنحو، وهذا أمر أو معنًى تقوم عليه جميع المعاني، ولا يتحقق معنًى ما بغيره.

ومن أعسر ما يتحدّث عنه المعنى النحوي؛ لأنه غُيِّب أو غاب، اختفى ذكره أو ضاع، وأهمل في غمرة الاهتمام بالجانب اللفظي من النحو، والعمل والعامل، وتحقيق أصول الصناعة النحوية من خلال الإعراب والتبويب، وإكثار المسائل المفترضة.

وقد جرّ هذا على النحو اتهامه بأنه لفظي، لا يعير المعنى اهتمامًا، ولا يأبه به، وأحال الدرس النحوي إلى ضرب من الصناعة لا يخاطب الذوق، وإن خاطب العقل، ولا يؤسس بيانًا، وإن أسّس معرفة بالنظام، وصار النحو غاية لدى دارسيه ومعلِّميه، يتبارون في تشقيق جوانبه الصناعية، ويبدعون أيما إبداع في إدراك مسائله وتفريعاته، وينأون عن توظيفه في الحياة، ويعجزون عن تسخيره لتذوّق ما يلقى إليهم من قول، وتوظيفه فيما ينشئونه من كلام. وقد قال أبو بشر متّى بن يونس في محاورته أبا السيرافي: "المنطق يبحث في المعنى، والنحو يبحث عن اللفظ، فإن مرّ المنطقي باللفظ فبالعرض، وإن عثر النحوي بالمعنى فبالعرض، والمعنى أشرف من اللفظ، واللفظ أوضح من المعنى" (14).

ولا يمكن أن نجد كلامًا من لفظ مفرد، وإنما يكون الكلام بتضامِّ الألفاظ بعضها إلى بعض، والمتكلم حين يتكلم لا يقصد إلى معاني الأصوات أو الكلم معزولة عن بقية مكوِّنات الكلام، وإن كان للكلم المفرد معنًى تجريدي، إذ يقصد المتكلِّم تكوين فكرة بتضامّ الكلم إلى بعضه، وتوظيف الأدوات لصنع هذه المعاني من خلال سياقات ومقاصد، فإذا قلت: جاء زيدٌ لم يكن قصدك "جاء" وحدها، ولا "زيد" وحده، وإنما قصدت مجيئًا خاصًّا واقعًا من زيدٍ، بمعنى أنك قصدت إسناد المجيء إلى زيدٍ. والمتلقِّي يشاطرك هذا الفهم، ويتطلع إلى هذا المعنى، فلا تراه مشغولاً بالكلمات المفردة، بل تراه مهمومًا بما ينتج عنه تضامُّ هذه الكلمات، وما يحدثه هذا التضامُّ من معنًى، لم يكن لولا هذا التضامُّ.

ولا يبعد عن الصحة مقالة بعضهم: إنّ اللغة فكر، وقد لامس عبد القاهر هذا المعنى حين قال: "علاقة الفكر بمعاني النحو.

ومما ينبغي أن يعلمه الإنسان، ويجعله على ذكر أنه لا يتصور أن يتعلق الفكر بمعاني الكلم أفرادًا ومجردة من معاني النحو، فلا يقوم في وهم، ولا يصح في عقل أن يتفكر متفكر في معنى فعل من غير أن يريد إعماله في اسمٍ، ولا أن يتفكر في معنى اسم من غير أن يريد إعمال فعل فيه، وجعله فاعلاً له أو مفعولاً، أو يريد فيه حكمًا سوى ذلك من الأحكام، مثل أن يريد جعله مبتدأ أو خبرًا أو صفة أو حالاً أو ما شاكل ذلك. وإن أردت أن ترى ذلك عيانًا فاعمد إلى أيّ كلام شئت، وأزل أجزاءه عن مواضعها، وضعها وضعًا يمتنع معه دخول شيء من

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير