وفي المقابل يمكن أن يعبَّر عن المعنى النحويّ الواحد من غير طريق، فمثلاً النسبة والإضافة معنًى نحويّ إضافيّ واحد، يمكن أن يعبَّر عنه من عدة طرق، فتعبِّر عنه بإضافة كلمة إلى كلمة، مثل: غلام زيدٍ ورجل البصرة. وبزيادة ياء النسبة المشدَّدة، مثل: زيديّ، وبصريّ. وبالصيغة، مثل: لابن وتامر، وخبّاز وجزّار ونهر. وبحرف الجر (الأداة)، وبصيغة الفعل مثل: فسّقته وكفّرته. وتعبِّر عنه بالكلمة المعجمية، فتقول: نسبت الرجل إلى البصرة.
والتأكيد معنًى نحويّ إضافيّ نعبِّر عنه بطرقٍ:
1 - نون التوكيد في الفعل، نحو: لأقومنَّ.
2 - حروف التوكيد، مثل اللام وقد.
3 - تكرير اللفظ أو مرادفه، وهو التوكيد اللفظيّ.
4 - التوكيد بـ"نفس" و"عين" وأخواتهما، وهو التوكيد المعنويّ.
5 - التوكيد بالقسَم.
6 - التوكيد بالوصف المشتقّ، مثل: شعر شاعر، وليل أليل.
7 - التوكيد بالمفعول المطلق.
8 - التوكيد بـ"إنّ"، ومثلها "أنّ".
9 - الاستثناء المفرَّغ.
10 - الحصر، ومنه تقديم ما حقّه التأخير.
11 - التوكيد بضمير الفصل، وضمير الشأن.
12 - التأكيد بالزيادة، مثل: "ما أنا بقارئ".
13 - التوكيد بالكلمة أو العبارة المعجميّة.
14 - أساليب عربية أخرى، مثل: حسب، وكافي.
والمعاني النحوية الإضافية هي المقصودة بالكلام، قال عبدالقاهر: "واعلم أنك تجد هؤلاء الذين يشكّون فيما قلناه تجري على ألسنتهم ألفاظ وعبارات لا يصح لها معنى سوى توخّي معاني النحو وأحكامه فيما بين معاني الكلم. ثم تراهم لا يعلمون ذلك. فمن ذلك ما يقوله الناس قاطبة من أنّ العاقل يرتب في نفسه ما يريد أن يتكلم به. وإذا رجعنا إلى أنفسنا لم نجد لذلك معنى سوى أنه يقصد إلى قولك ضرب فيجعله خبرًا عن زيد، ويجعل الضرب الذي أخبر بوقوعه منه واقعًا على عمرو، ويجعل يوم الجمعة زمانه الذي وقع فيه، ويجعل التأديب غرضه الذي فعل الضرب من أجله فيقول: "ضرب زيد عمرًا يوم الجمعة تأديبًا له". وهذا كما ترى هو توخِّي معاني النحو فيما بين معاني هذه الكلم. ولو أنك فرضت أن لا تتوخى في "ضرب" أن تجعله خبرًا عن "زيد"، وفي عمرو أن تجعله مفعولاً به لضرب، وفي "يوم الجمعة" أن تجعله زمانًا لهذا الضرب، وفي التأديب أن تجعله غرض زيد من فعل الضرب، ما تصور في عقل، ولا وقع في وهم أن تكون مرتبًا لهذه الكلم. وإذ قد عرفت ذلك فهو العبرة في الكلام كله، فمن ظن ظنًّا يؤدِّي إلى خلافه ظن ما يخرج به عن المعقول.
ومن ذلك إثباتهم التعلق والاتصال فيما بين الكلم وصواحبها تارة ونفيهم لهما أخرى. ومعلوم علم الضرورة أن لن يتصور أن يكون للفظة تعلق بلفظة أخرى من غير أن يُعتبر حال معنى هذه مع معنى تلك.
ويراعى هناك أمر يصل إحداهما بأخرى، كمراعاة كون "نبك" جوابًا للأمر في قوله: "قفا نبك": وكيف بالشك في ذلك؟! ولو كانت الألفاظ يتعلق بعضها ببعض من حيث هي ألفاظ، ومع اطراح النظر في معانيها لأدَّى ذلك إلى أن يكون الناس حين ضحكوا مما يصنعه المُجّان من قراءة أنصاف الكتب ضحكوا عن جهالة، وأن يكون أبو تمام قد أخطأ حين قال:
عذلاً شبيهًا بالجنون كأنما قرأت به الورهاء شطر كتاب
لأنهم لم يضحكوا إلا من عدم التعلق، ولم يجعله أبو تمام جنونًا إلا لذلك، فانظر إلى ما يلزم هؤلاء القوم من طرائف الأمور.
وهذا فن من الاستدلال لطيف على بطلان أن تكون الفصاحة صفة للفظ من حيث هو لفظ" (13).
وبعد، فقد انتهى نظري إلى أنّ المعنى النحويّ سيِّد المعاني، وكل معنًى بدونه لغوٌ مطَّرَح؛ إذ كل معنًى سواه خادمٌ له، ومن مكوِّناته الأولى، وأنه ليس هناك فكرة إلا وقد عُبِّر عنها بالمعنى النحويّ، وتلبَّست قوالبه، ولا يمكن أن يعبَّر عنها بغيره من المعاني، وأنّ درس هذه المعاني هو الطريق الذي يؤسس الذوق في فهم النص ومعالجته، وإدراك سره ومقاصده، وهو الذي يفتح النفوسَ لموادّة النحو، ويهيئ العقول لاستساغته، وإدراك علائق الكلم، وفهم الكلام منطوقًا ظاهرًا، أو غير منطوق خفِرًا خفيًّا، وليس هناك درس من دروس العربية بحاجة إلى تعدد طرائق معالجته، وأساليب درسه بما يعود عليه بالتيسير والتقريب وجعله شيئًا يسيغه الذوق أولى من النحو.
إنّ الذوق هو الذي يصنع الإبداعات العلمية والعقلية والفكرية والعاطفية، وهو ما يفتقر إليه عامة المشتغلين بالنحو العربي، الذين يفنون حياتهم في قراءة ما كُتِب قبلهم، ونقله إلى طلاّبهم، قد فنيت أذهانهم في دركه، وكلّت أناملهم من كتبه، وبُحَّتْ أصواتهم من شرحه، وهذا على جلالة قدره، وسموِّ مكانته، عمل دون تذوّق النحو، المبني على درس أصوله ومعانيه، والولوج فيه من أبوابٍ متفرِّقة، ومداخل متنوّعة، ومسالك متعددة، يفضي كلٌّ منها إلى روضة غنّاء ذات أزاهير مصبَّغة بالألوان، وروائح زاكية لا يستطاع ردُّها، تؤنسك بدرس النحو، وتحتفي بك ضيفًا لا يستثقلُ، ولا يرى في إكرامه في يومه نقصًا عن إكرامه في أمسه، أو صاحب دار لا يفتأ يجد فيها جديدًا كل يوم جديد، من المطاعم والمشارب، والفرش والروائح، ومن سائر ما أغدق الله عليه وعلى أهل بيته، وإن لم يجد الجديد وجد ما يحيل قديمه إلى جديد في النظام والترتيب والتغيير والتبديل، لتقع عينه في يومه على ما لم تقع عليه في أمسه، في عملٍ متجدِّدٍ لا يملُّه القلب، ولا تسأم منه النفس، مع ما يعود عليه من الرغبة في المزيد، والتطلع إلى الجديد، دفعًا لمقولة: "إنّ المللَ مجلبة للعقم".
(انتهى)
الهوامش:
* أستاذ بكلية اللغة العربية، جامعة أمّ القرى، مكة المكرمة.
(1) الخصائص 2/ 451.
(2) في شرحه ألفيّة ابن معط ص57.
(3) المغني ص227.
(4) ينظر خليل عمايرة في نحو اللغة وتراكيبها ص55.
(5) ينظر خليل عمايرة في نحو اللغة وتراكيبها ص56 - 57 بتصرف واختصار.
(6) ينظر خليل عمايرة في نحو اللغة وتراكيبها ص57 - 58 بتصرف واختصار.
(7) شرح ألفيّة ابن مالك، ابن هانئ، تح. بندر الشمّري، آخر حروف الجرّ، ص97 - 98.
(8) شرح الألفية، آخر حروف الجرّ، ص78.
(9) شرح الألفية ص324.
(10) شرح الألفية ص23 - 24.
(11) شرح الألفية، باب التعجب، ص8.
(12) شرح الألفية، باب التعجب، ص2.
(13) دلائل الإعجاز ص405 - 407.
¥