فالتقدير أصل ثابت في مختلف أبواب النحو العربي، وموجب التقدير في مثل هذه المسألة موجود وهو اختصاص هذه الأدوات بالدخول على الأفعال، وإنما يكون القول بأن (ما لا يحتاج إلى تقدير أولى مما يحتاج إلى تقدير) .. إنما يكون ذلك مقبولا عندما لا يوجد ما نع معنوي أو صناعي من الاعراب المباشر دون تقدير، أما إذا اقتضى المعنى أو الصناعة التقدير فعندئذ يكون مقبولا، ويكون لازما في بعض المواضع.
وشرط جواز الحذف أن يفهم المعنى فهما لا لبس فيه، والأصل أن توجد قرينة لفظية أو عقلية تدل على المحذوف وتمنع حدوث اللبس، وفي مثل مسألتنا (المسألة بشكل عام بصورها المختلفة وليس المثال تحديدا) اجتمع كل ذلك، فموجب التقدير حاضر، والاستغناء عنه يؤدي إلى أكثر من إشكال، ومسوغ جواز الحذف موجود وهو وضوح المعنى مع الحذف لأن المفسر اللفظي والمعنوي حاضر في كل صورة من صور الحذف في هذه المسألة.
وأشهر صور الحذف في هذه المسألة يكون على ثلاثة أضرب:
أ ـ ما كان فيه الفعل المفسر عاملا الرفع في ضمير الاسم المرفوع المتقدم.
مثل: إنِ الماءُ حَضَر بطل التيمم ــ إذا الأمانة حُفِظتْ فالأمة بخير.
فليس ثمة من ينكر أن المعنى: إن حَضَر الماءُ بطل التيمم ــ إذا حُفِظتْ الأمانة فالأمة بخير.
وهذا هو الكثير الغالب، ويصح فيه أن يكون الفعل المحذوف مطابقا للمفسر لفظا ومعنى وزمنا، ومن حيث البناء للمعلوم أو المجهول.
ب ـ ما كان فيه الفعل المفسر عاملا النصب في ضمير الاسم المتقدم وكان الاسم المتقدم مرفوعا (لأنه لو نصب لخرج من الباب إلى الاشتغال) ويجيء على صور أوضحها بالأمثلة:
إن منفسٌ أهلكتُه ... إن عودٌ كسرتُه ... إن شجرةٌ زرعتُها ...
فإن أمكن تقدير فعل لازم يرتفع به الاسم على أنه فاعل كما في المثالين الأولين (إن هَلكَ منفس ... ـ إن انكسر عود ... ) فهو حسن، وإن تعذر ذلك فيمكن تقدير فعل مبني للمجهول من مادة المفسر ويكون الاسم المرفوع نائب فاعل مثل (إن زُرعتْ شجرةٌ ... ) وهناك من يقدر المبني للمجهول أيضا في المثالين الأولين.
جـ ـ ما كان فيه الفعل المفسر عاملا الرفع في اسم ظاهر مضاف إلى ضمير الاسم المرفوع المتقدم، ويجيء على صور كما في الأمثلة:
إذا المرءُ فَزِع قلبُه ... إن امرؤ حسُنَ خُلقه ... إن رجلٌ مات أخوه ... إن رجلٌ أُكرمَ أخوه ... فإن أمكن إعراب معمول المفسر بدل بعض أو اشتمال من الاسم المتقدم صح تقدير فعل مطابق للمفسر ليرتفع به المتقدم على أنه فاعل مثل (إذا فزع المرء قلبه ... ــ إن حسن امرؤ خلقه)، وإن امتنع إعراب مرفوع المفسر بدلا مثل (إن رجل مات أخوه ... ) فإن أمكن تقدير فعل من مادة المذكور أو من معناه لا يؤدي إلى لبس في المعنى فلا بأس.
وإن كنت أرى أن ثمة حذفين، وأن المفسر ليس الفعل وحده وإنما جملة (مات أخوه) كلها مفسرة لمحذوفين اثنين، وذلك كما يلي:
(إن زيد مات أخوه انكسرت شوكته)
لا ينكر أحد أن المعنى: إن مات أخو زيد انكسرت شوكته، وبذلك يكون الفعل (مات) مفسرا للفعل المحذوف، ويكون (أخو .. ) مفسرا للفاعل المحذوف، ولما كان الفاعل المحذوف مضافا أقيم المضاف إليه (زيد) مقامه وارتفع بالإسناد إلى الفعل، فأما حذف الفعل في الباب بشكل عام فهو رأي الجمهور، وأما حذف المضاف هنا فله مسوغ ـ حسب رأيي ـ لأنه من المعروف أن المضاف يحذف جوازا حذفا قياسيا إذا تحققت شروطه وهي:
1ـ ألا يؤدي حذفه إلى لبس، ولا لبس هنا لأن أقل الناس فهما يدرك أن الميت هو الأخ لا زيد.
2ـ أن توجد قرينة عقلية أو لفظية تدل على المضاف المحذوف، والقرينة اللفظية حاضرة وهي (مات أخوه).
3ـ أن يقام المضاف إليه مقام المضاف المحذوف في الإعراب، وقد أعرب المضاف إليه (زيد) فاعلا لكونه أقيم مقام المضاف (أخو .. ).
*قد يقول قائل: كيف لي أن أقتنع بصحة إعراب زيد فاعلا لـ (مات) وهو لم يمت؟
أقول: التقدير (إن مات أخو زيد ... ) وإنما أعرب زيد فاعلا بالإقامة مقام المحذوف حين تحقق مسوغ الحذف، على أن الفعل المقدر لا يصح ذكره مع ذكر مفسره، وما دام المفسر قد أفهمنا المعنى فقد أدى وظيفته.
أرأيت لو طلب منك إبعاد (مات أخوه) أو إزاحتها ثم بناء الجملة مع المحافظة على المعنى ألست قائلا: إن مات أخو زيد انكسرت شوكته؟ ولو لم يؤد المفسر وظيفته لما استطعت ذلك.
وعليه فأنت إذا أردت ذكر الفعل (مات) المحذوف (على الحقيقة لا التقدير) لزمك أن تذكر الفاعل المحذوف أيضا (أخو .. ) وتستغني عما فسرهما (مات أخوه)، أما الإبقاء على المفسر فيلزم عنه عدم ذكر المحذوف، وعلى هذا الأساس كان (زيد) فاعلا بالإسناد أما الفاعل الحقيقي فهو محذوف يدل عليه مفسره.
* ومثل ذلك يقال في (إن رجلٌ أُكرمَ أخوه ... ) مع مراعاة أن (رجل) أقيم هنا مقام نائب الفاعل لكون الفعل المحذوف مبنيا للمجهول.
هذا ولا أبرئ نفسي من سهو أو خطأ أو سوء تقدير، وبآرائكم تتم الفائدة، ولكم كل محبة وتقدير.
¥