روى ابنُ كَيْسانَ عن الفراء ([22]) أن لن ولم أصلهما لا فأبدلت الألف نوناً في لن وميماً في لم قال السيرافي: ((وزعم الفراء أن لن ولم أصلهما واحد، وأن الميم والنون مبدلتان من الألف في لا، وهذا ادعاء شيء لا نعلم فيه دليلاً، فيقال للمحتج عنه، ما الدليل على ما قلت؟ فلا يجد سبيلاً إلى ذلك)) ([23]) 0
وقال ابن يعيش: ((وكان الفراء يذهب إلى أن الأصل في (لن) و (لم) لا، وإنما أُبدل من ألف لا النون في لن والميم في لم؛ ولا أدري كيف اطَّلع على ذلك؛ إذ ذلك شيء لا يطلع عليه إلا بنص من الواضع)) ([24])
وقال في موضع آخر عن لن: ((وكان الفراء يذهب إلى أنها لا والنون فيها بدل من الألف وهو خلاف الظاهر، ونوع من علم الغيب)) ([25])
واعترض ([26]) على الفراء بأن إبدال الألف نوناً خلاف الأصل، وحمْلٌ على ما لا نظير له في العربية إذ الأصل إبدال النون ألفاً كإبدال نون التوكيد الخفيفة ألفاً حال الوقف عليها كما في قوله تعالى:) القيا في جنهم كلّ كفّار عنيد (([27])،قيل الخطاب لمالك -عليه السلام - خازن النار وهو واحد، وقيل الخطاب للسائق والشهيد وعليه فلا شاهد في الآية وكقول الشاعر:
وذا النُّصُب المنصوب لا تنسكنّه ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا
وصلِّ على حين العشيّات والضحى ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا ([28])
إذ الأصل: فاعبدن، واحمدن بنون التوكيد الخفيفة، فأبدل من النون ألفاً مراعاة للقوافي المطلقة، وقول الآخر
يحسبه الجاهل ما لم يعلما شيخاً على كرسيه معمما ([29])
أي ما لم يعلمن، ومثله قول الآخر:
بادٍ هواك صبرت أم لم تصبرا وبكاك إن لم يجر دمعك أو جرى ([30])
أي لم تصبرن، وأمثال هذا كثير جداً في العربية 0
وكذلك اعترض عليه بأن إبدال النون ألفاً إنما هو في حال الوقف، فإذا وصل الكلام صحّت النون، ولن لا يوقف عليها بل لا بدّ من وصلها بما بعدها ولا يجوز قطعها مما يبطل القياس 0
وكذلك اعترض عليه بأن مذهبه خلاف قواعد التصريف ومفارق لسنن العربية في الانتقال من الثقيل إلى الخفيف إذ النون مقطع، والألف صوت، والصوت أخف من المقطع، فلا ينتقل من الخفيف إلى الثقيل، ومذهبه يؤدي إلى هذا
واعترض عليه أيضاً بأن الحرف لا حرف مهمل، ولن حرف عامل فكيف يحمل الحرف العامل على حرف مهمل
الفصل الثاني: أحكام لن
المبحث الأول: معاقبة لن لـ (لم) في الجزم:
ذهبت طائفة من العلماء إلى أن لن عاقبت لم في الجزم، وأن ذلك لغة لبعض العرب، فيما رواه أبو عبيدة ([31]) -وهو من النوادر- وساقوا على ذلك طائفة من الشواهد منها قول الشاعر:
أيادي سبا يا عزَّ ما كنت بعدكم فلن يَحْلَ للعينين بعدكِ منظر ([32])
ومنها قول الشاعر:
هذا الثناء فإن تسمع به حسناً فلن أعرِّضْ أبيت اللعن بالصفد ([33])
وقول أعرابي في مدح الحسين بن عليٍّ رضي الله عنهما:
لن يخب الآن مِنْ رجائك مِنْ حرَّك من دون بابك الحلقه ([34])
ومنها ما رواه الإمام القرطبي في تفسيره ([35])، وابن مالك ([36])، من قول الملَك في النوم لعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: ((لن ترع لن ترع)) ([37]) بجزم المضارع بلن قال ابن مالك: ((وفي لن ترع لن ترع إشكال ظاهر؛ لأن لن يجب انتصاب الفعل بها، وقد وليها في هذا الكلام بصورة المجزوم 000 ويجوز أن يكون السكون سكون جزم على لغة من يجزم بلن، وهي لغة حكاها الكسائي)) ([38])
وبتمحيص هذه الشواهد التي ساقوها دليلاً على ما ذهبوا إليه نجد أن بيت كثيِّر مرويٌّ في جلّ المصادر بـ (لم يَحْلَ) وهي رواية أحسن في المعنى؛ لأنه يشكو لعزة حاله فيما مضى بعد فراقها إياه وأنه كان مشتتاً كأيادي سبا، ولم يَحْلَ له منظر منذ ذلك الفراق، وهذا المعنى عذب في عرف المتصافين، دالٌّ على ثبات الود، و (لم يحلَ) هي المتسقة مع هذا المعنى لإحالتها زمن المضارع للمضي، أما رواية (لن يحلَ) فهي غير متسقة مع المعنى؛ لأن فيها إقراراً بأنه قد حلي له فيما مضى منظر، وكأنها تعاتبه على ذلك، وهو يأسف على ما بدر منه، ويؤكد لها أنه فيما بعدُ لن يَحْلَى له بعدها منظر إنْ هي سامحته0
¥