وكذلك بيت النابغة (لن أُعَرِّضْ) مرويٌّ في المصادر القديمة بـ (فلم أُعرِّضْ)،أو (فما عَرَضْتُ)، ورواية (لم أعرّض) وكذلك (فما عرَّضت) أقوى في المعنى من رواية (فلن أعرِّض) لأن الرجل ينفي عن نفسه تهمةً رُمِيَ بها عند النعمان في شأن المتجرّدة، وينكر تلك التهمة من أساسها، ورواية (لن أعرِّضْ) فيها إقرار منه بما رُمي به، ومعاهدةٌ بعدم العود مستقبلاً، وفرق شاسع بين نافٍ ما اتهم به، ومقرٍّ معترف معتذر معاهد بعدم العود 0
أما بيت الأعرابي في مدح الحسين رضي الله عنهما فقال عنه البغدادي: ((البيت أنشده أبو الحسين بن الطراوة، وأقول: كيف يصح اجتماع لن مع الآن، ولا يصح ذكر الآن إلا مع لم، فإن قلت اجعل الخيبة المقيَّدة بالآن منفية بالمستقبل قلت: الخيبة المنفية إنما هي المقيدة بالآن 000 قال البَطَلْيَوْسي: وجزم الأعرابي بلن، وذكر اللِّحياني أن ذلك لغة لبعض العرب يجزمون بالنواصب، وينصبون بالجوازم)) ([39])
والرواية المشهورة لحديث ابن عمر هي (لم ترع لم ترع)، ولكن رواية (لن ترع لن ترع) أحسن من حيث المعنى فقط؛ لأن فيها بشارةً لابن عمر رضي الله عنهما بأنه لن يراع في قادم الأيام 0
وعلى هذا فالجزم بلن لغةٌ لبعض العرب كما ذكر اللِّحياني ([40])، ولكنها لغة ضعيفة، لا ترقى لأن تتخذ قاعدة، وشواهدها لم تسلم من الاعتراض عليها كما رأينا 0
كما لا يمكن من خلال الشواهد التي سيقت عزوها لقبيلة بعينها، لأن الشاهد الأول لخزاعي، والثاني لغطفاني، والثالث لأعرابي دون تخصيص، والرابع لقرشي 0
قال السهيلي عن لن: ((كان ينبغي أن تكون جازمة؛ لأنها حرف نفي مختص بالأفعال، فوجب أن يكون إعرابه الجزم الذي هو نفي الحركة وانقطاع الصوت ليتطابق اللفظ والمعنىكما تقدم في باب الإعراب)) ([41])
المبحث الثاني: إفادة لن الدعاء:
لايُعرف خلاف بين النحاة في جواز الدعاء بـ (لا) النافية على المخاطب، أوعلىالغائب، أما الدعاء على النفس فقد منعه طائفة من النحاة منهم أبو حيان ([42])، وأجازه ابن عصفور، وابن هشام واستدلَّ الأخير بقول الشاعر:
لن تزالوا كذلكم ثم لا زلـ ـتُ لكم خالداً خلود الجبال
بضمير المتكلم في (زلتُ) وبضمير المخاطب في (لكم) وستأتي مناقشة هذا البيت
أما الدعاء بـ (لن) فمحل نزاع عند النحاة؛ إذ نقل ابن السراج عن قوم تجويزه فقال ((وقال قوم يجوز الدعاء بلن مثل قوله) فلن أكون ظهيراً للمجرمين (([43]) وقال الشاعر:
لن تزالوا كذلكم ثم لا زلـ ـتَ لهم خالداً خلود الجبال ([44])
والدعاء بلن غير معروف، إنما الأصل ما ذكرنا أن تجيء على لفظ الأمر والنهي، ولكنه قد يقصد بها الدعاء إذا دلّت الحال على ذلك)) ([45])
وفسَّر من أجاز الدعاء بلن في الآية الكريمة بأن المعنى: (رب لا تجعلني أكون ظهيراً للمجرمين)
ووافقه على ذلك ابن عصفور ([46])، وابن هشام في المغني ([47])، وخالفه في التوضيح ([48]) وشرح القطر ([49])، وشرح اللمحة البدرية ([50])
ومنعه أبو حيان ([51]) واحتجَّ بأن فعل الدعاء لا يسند إلى المتكلم بل إلى المخاطب أو الغائب
ورد عليه ابن هشام ([52]) فزعم جواز إسناد فعل الدعاء إلى المتكلم، محتجاً بأن الشاعر عطف جملة (لازلتُ) وهي جملة إنشائية علىجملة لن تزالوا ولو كانت الأولى خبرية لما صح عطف الإنشائية عليها، وعنده إن جملة (لازلتُ لكم) بتاء المتكلم وكاف المخطاب، وهذه هي رواية بعض النحاة، ورواية الديوان (لا زلتَ لهم) بفتح التاء وضمير الغيبة، أي (لازلتَ) أيها الممدوح خالداً لهم خلود الجبال قال البغدادي: ((وقوله لن يزالوا إلى آخره بالياء التحتية بضمير الغيبة الراجع لمجموع مَن ذَكر ممن قَتلوا وأَسروا وسَبوا ونَهبوا من الأعداء وممن غَزا معه وقَتل وغَنِمَ من الأولياء، وقوله ولازلتَ بالخطاب للمدوح، ولهم بضمير الغيبة، فظهر مما ذكر أن البيت قد روي في كتب النحو على خلاف الرواية الصحيحة)) ([53])
وإليك هذا الشاهد الذي ورد فيه الدعاء على النفس اصطدته من كتب المعاجم 0
لا ذعرتُ السوَام في فلق الصبـ ـح مغيراً ولا دُعيتُ يزيدا ([54])
ويجوز أن يكون منه أيضاً قول النابغة:
ما قلتُ من سيِّء مما رميت به إذن فلا رفعت سوطي إليَّ يدي ([55])
ويحتمله قول الآخر:
¥