ولهج ابن هشام في مخالفة الزمخشري فقال: ((ولا تفيد لن توكيد النفي خلافاً للزمخشري في كشافه ولا تأبيده خلافاً له في أنموذجه وكلاهما دعوى بلا دليل)) ([94])، وقال أيضاً: ((لن وهي لنفي سيفعل ولا تقتضي تأبيد النفي ولا تأكيده خلافاً للزمخشري)) ([95])، وقال أيضاً: ((ولن حرف يفيد النفي والاستقبال بالاتفاق، ولا تقتضي تأبيداً خلافاً للزمخشري في أنموذجه، ولا تأكيداً خلافاً له في كشافه)) ([96])، وقال الأشموني: ((ولا تفيد تأبيد النفي ولا تأكيده خلافاً للزمخشري: الأول في أنموذجه والثاني في كشافه)) ([97])
و شرح الشيخ خالد الأزهري ([98]) كلام ابن هشام دون أن يعترض عليه مما يدلُّ على موافقته له فيما قال 0
وسبق ابنَ هشام في مخالفة الزمخشري في توكيد النفي بلن ابنُ عصفور كما زعم أبو حيّان، والمرادي، ولم أجد في كتب ابن عصفور المطبوعة الآن التي اطلعت عليها ([99]) شيئاً من ذلك، ولعله في كتبه التي لمّا تطبع بعد 0
وفي الحق أن الزمخشري محظوظ في هذه القضية؛ إذ نَسَبَ له القوم ماليس له، وخالفوه فيما هو تابع فيه غيره، وزادوه شهرة من حيث أرادوا أن يغضُّوا منه؛ إذ أخذ اسمه يتردد في كتبهم، وكتب من جاء بعدهم من النحاة على أنه مؤصِّل مسألةٍ ومبتكرها، وما هو إلا تابع لسواه ليس غير 0
ولو تتبع المرء مسألة القول بتوكيد النفي بلن من أصلها لوجد الخليل بن أحمد هو ابنُ بجدتها وهو أول من قال بها، قال في العين: ((وأما لن فهي: لا أن وصلت في الكلام، ألا ترى أنها تشبه في المعنى لا، ولكنها أوكد تقول: لن يكرمَك زيد معناه: كأنه يطمع في إكرامه فنفيت عنه ووكدت النفي بلن فكانت أوكد من لا)) ([100]) 0
وقال الأزهري: ((الليث عن الخليل في لن أنه لا أن فوصلت لكثرتها في الكلام، ألا ترى أنها تشبه في المعنى لا ولكنها أوكد تقول: لن يكرمك زيد معناه: كأنه كان يطمع في إكرامه فنفيت ذاك ووكَّدت النفي بلن فكانت أوجب من لا)) ([101])
فالخليل بن أحمد هو أول من قال بتأكيد النفي بلن وأبان بأنها تشبه لا في إفادة النفي ولكنها تتميَّز عن لا بأنها آكد من أختها لا في هذا الباب، وكرر هذا المعنى ثلاث مرات ((ولكنها أوكد)) ((فنفيت عنه ووكدت النفي)) ((فكانت أوكد من لا))
فكان الحق على متأخري النحاة أن يخالفوا الخليل في القول بتوكيد النفي بلن كما خالفوه في القول بتركيبها من لا وأن، وينسبوا الخلاف له وليس للزمخشري المتابع للخليل
وبما أن سيبويه لم يشر في كتابه إلى قضية توكيد النفي بلن من عدمه، فلذلك أظنُّ -والله أعلم- أن ابن عصفور وأبا حيان لم يعلما برأي الخليل فيها، وأظن أنهما لم يطّلعا على مادة (لن) في كتابي العين، وتهذيب اللغة، واطّلع عليها الزمخشري في أحدهما، أو في كليهما؛ فلذلك أفاد منها الزمخشري، ولم يفد منها الأندلسيون، ولعل مما يؤيد ما ذهبتُ إليه أن ابن سيده -الأندلسي -لم يشر إلى رأي الخليل في كتابيه المحكم ([102])، والمخصص ([103]) بل نقل في المحكم كلام ابن حني في سر صناعة الإعراب عن لن بنصّه ([104]) وهما من أهم الكتب المعاجم المتداولة في بلاد الأندلس
ثم إن أبا حيان لم يكن مصرّاً على مخالفة الزمخشري في قضية توكيد النفي بلن بل كان في البحر المحيط كثيراً ما يوافقه على ذلك قال: ((لن نفي لما دخلت عليه أداة الاستقبال، ولا نفي للمضارع الذي يراد به الاستقبال فلن أخص؛ إذ هي داخلة على ما ظهر فيه دليل الاستقبال لفظاً؛ ولذلك وقع الخلاف في لا هل تختص بنفي المستقبل أم يجوز أن تنفي بها الحال، وظاهر كلام سيبويه رحمه الله هنا أنها لا تنفي الحال 000فإذا تقرر هذا الذي ذكرناه كان الأقرب من هذه الأقوال قول الزمخشري أوّلاً من أن فيها توكيداً وتشديداً؛ لأنها تنفي ما هو مستقبل بالأداة، بخلاف لا فإنها تنفي المراد به الاستقبال مما لا أداة فيه تخلصه له؛ ولأن لا قد ينفى بها الحال قليلاً فلن أخص بالاستقبال، وأخصّ بالمضارع؛ ولأن) ولن تفعلوا (أخصر من ولا تفعلون؛ فلهذا كله ترجّح النفي بلن على النفي بلا)) ([105]) فهو هنا وافق الزمخشري صراحة ((فإذا تقرر هذا الذي ذكرناه كان الأقرب من هذه الأقوال قول الزمخشري أوّلاً من أن فيها توكيداً وتشديداً)) وعللّ ذلك باختصاص لن بنفي ما هو مستقبل بالأداة، وباختصاصها
¥