وردَّ ابن الجوزي على من يرى تأبيد النفي بـ (لن) دون أن يعين القائل قال: ((قوله) لن تراني (تعلق بهذا نفاة الرؤية، وقالوا لن لنفي الأبد، وذلك غلط؛ لأنها قد وردت وليس المراد بها الأبد في قوله) ولن يتمنّوه أبداً بما قدّمت أيديهم (([175]) ثم أخبر عنهم بتمنيه في النار بقوله) يا مالك ليقض علينا ربّك (([176])؛ ولأن ابن عباس قال في تفسيرها: لن تراني في الدنيا)) ([177]) 0
ويقول القواس: ((وأما لن فلنفي المستقبل، وقيل: إنها لتأبيد النفي، ويبطله قوله تعالى:) ولن يتمنوه أبداً (لأنها لوكانت موضوعة للتأبيد لما احتيج إليه؛ ولأنها نزلت في حق اليهود، ونفي تمني الموت مختص بالدنيا؛ لأنهم يتمنونه في الآخرة بدليل قوله:) ليقض علينا ربك ()) ([178]) 0
ويقول أبو حيّان: ((ونقل ابن مالك أن الزمخشري خص النفي بالتأبيد)) ([179])
ويقول ابن هشام: ((ولا تفيد لن توكيد النفي خلافاً للزمخشري في كشافه ولا تأبيده خلافاً له في أنموذجه وكلاهما دعوى بلا دليل)) ([180])، وقال أيضاً: ((لن وهي لنفي سيفعل ولا تقتضي تأبيد النفي ولا تأكيده خلافاً للزمخشري)) ([181])، وقال أيضاً: ((ولن حرف يفيد النفي والاستقبال بالاتفاق، ولا تقتضي تأبيداً خلافاً للزمخشري في أنموذجه، ولا تأكيداً خلافاً له في كشافه)) ([182]) 0
ويقول المرادي: ((ولا يلزم أن يكون نفيها مؤبداً خلافاً للزمخشري)) ([183])، وقال أيضاً: ((فأما لن فحرف نفي ينصب المضارع، ويخلصه للاستقبال، ولا يلزم أن يكون مؤبداً خلافاً للزمخشري ذكر ذلك في أنموذجه)) ([184]) 0
ويقول ابن عقيل في شرح هذه العبارة ((وينصب المضارع بلن مستقبلاً بحد وبغير حد خلافاً لمن خصها بالتأبيد)) قال: ((وهو الزمخشري ذكر ذلك في الأنموذج)) ([185])
وقال ابن الناظم: ((وذكر الزمخشري في أنموذجه أن لن لنفي التأبيد)) ([186])، هكذا بتقديم كلمة نفي على كلمة التأبيد، والمعنى ينعكس حينئذٍ تماماً، ولعل المراد تأبيد النفي كما ذكر ذلك والده، ووردت هذه العبارة أيضاً بتقديم كلمة نفي على كلمة تأبيد عند ابن كثير في تفسير قوله تعالى) لن تراني (قال: ((وقد أشكل حرف النفي ههنا على كثير من العلماء؛ لأنها موضوعة لنفي التأبيد 000 وقيل إنها لنفي التأبيد في الدنيا)) ([187])، بتكرار عبارة (نفي التأبيد) مرتين، وهذا أمر مشكل لو بقي على وضعه، ولكن يقال لعله خطأ طباعيٌّ أو سبق لسان من المصنف، أو تحريف من الناسخ 0
وكأن ابن كثير في استشكاله هذا يرى تأبيد النفي بلن؛ لأنه علل وجه الاستشكال بأن لن (موضوعة لنفي التأبيد) أي لتأبيد النفي، إذ لو كان على حسب عبارته (نفي التأبيد) لم يكن هناك إشكال، فأهل السنة -ومنهم ابن كثير - يرون أنها لا تفيد تأبيداً 0
وحاول الزركشي الجمع بين الأقوال المتعارضة في مسألة إفادتها التأبيد من عدمه، إذ يرى أن التأبيد لا يدلُّ على الدوام فقال: ((وأما التأبيد فلا يدل على الدوام تقول: زيد يصوم أبداً، ويصلي أبداً، وبهذا يبطل تعلق المعتزلة بأن لن تدل على امتناع الرؤية، ولو نفى بلا لكان لهم فيه متعلق)) ([188])، وقال أيضاً: ((وليس معناها النفي على التأبيد خلافاً لصاحب الأنموذج بل النفي مستمر في المستقبل إلا أن يطرأ ما يزيله)) ([189])
من خلال النصوص السابقة يمكننا القول إن النحاة قد انقسموا في مسألة تأبيد النفي بلن إلى مذهبين:
أحدهما: وعليه ابن مالك وأبو حيان أن لن لا تقتضي تأبيد النفي إطلاقاً سواء أقيِّد منفيها بالأبد أم لم يقيد 0
والثاني: أن لن تفيد تأبيد النفي بذاتها، ولكنهم خصُّوا الأبد في الدنيا فقط دون الآخرة، ومنهم ابن عطية، وابن يعيش، والزركشي وحفيد ابن هشام وغيرهم
المبحث الثالث: لن عند أصحاب المعاني:
¥