وقوله: {أوَّلَ كافِرٍ بهِ} إنما جاء به مفردً ا، ولم يقل " كافرين " حتى يطابق ما قبله؛ لأنه وصف لموصوف محذوف مفرد اللفظ، متعدد المعنى نحو فريق، أو فوج، وقد يكون من باب المفرد القائم مقام الجمع.
قلتُ: والقول الثاني هو الأولَى، حيث يقوم المعنى دون تقدير محذوف.
أرأيتَ – أستاذي الكريم – كيف اختلفت أقوال العلماء في توجيه عدم تطابق المبتدأ والخبر، فعلى هذا القول، لا نحتاج لأن نقول: إنَّ المبتدأ نُزِّل منزلة المفرد، بل نقول: إنَّ هذه الأوصاف تكون للمفرد والمثنَّى والجمع.
أما قولك عند الآية {وجعلنا ابنَ مريمَ وأمَّه ءايةً}: (الوجه الثاني - وهذا الذي تقصده - اللفظ محتمل للتثنية، لكن (جعلنا) أقصد " نا " جمع، و" آية " مفرد، أو أنزل منزلة المفرد)
عفوًا – أستاذي الحبيب – لم يكن هذا هو المقصود، بل المقصود، أنَّ لفظ ابن مريم وأمه مثنى، وأخبر عنهما بمفرد، فكيف صحَّ هذا على قواعد النحويين؟
قيل: إنَّ المقصود بـ" آية " الجنس لا اللفظ، وعليه تكون بمعنى: " آيتين ".
وقال الزمخشري: {وجعلنا ابنَ مريمَ} آية {وأمَّهُ} آيةً، ثم حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها.
فإن قلتَ: لا أرَى قول " شوقي " يسير بمحاذاة هذه التعليلات.
قلتُ: أصبتَ – أيها اللبيب – وإنما كنتُ قد ذكرتُ هذه الشواهد استطرادًا لا توجيهًا، واستفاضة في جمع شمل المسائل لا تمويها، وذلك حتَّى تتَّسع قاعدة عدم وجوب المطابقة، فيدرك كلُّ ذي لبٍّ عِظَم لغة القرآن التي وَسِعت كتابَ اللهِ لفظًا وغاية.
وأقول: قد ثبتَ أنَّ الجمع وقع خبرًا للمفرد – كما نصَّ على ذلك العلاَّمة أبو شامة – رحمه الله -، فمن بابِ أولَى أن يقع خبرًا عن المثنَّى، إذ أنَّ الجمع - في بعض الأقوال - أقلُّه اثنان،.
حُكي عن سيبويه أنه قال: سألت الخليلَ عن قوله: " ما أحسن وُجوهَهُما "؟ فقال: الاثنان جماعة.
وجاء في " معجم البلدان " (العرب تتوسع في كلامها وشعرها، فتجعل الاثنين جمعًا) انتهى
وكان مستفيضا في منطق العرب منتشرًا مستعملاً في كلامها: ضربت من عبد الله وعمرو رؤوسهما، وأوجعت منهما ظهورهما.
وإن كان ذلك مقولاً، فأفصح منه قوله جلّ ثناؤه: {إِن تَتوبا إلَى اللَّهِ فقدْ صَغَتْ قُلوبُكُما}، وقوله جلَّ ذكره: {والسَّارِقُ والسَّارقةُ فاقْطَعوا أيْديَهما}.
أرجو أن يكون فيما ذُكِر دليل واضح وكافٍ لتخريج البيت محل النقاش.
فإن قال قائل: أفلا نجعل كلمتي " أم أو أب " الواردة في جملة " هذان هما الرحماءُ " على حقيقة التثنية، وكلمة " الرحماء " على الجمع، ويكون الإخبار عنهما بالجمع من أجل تعظيم أمرهما؟
قلتُ: بلَى، يجوز ذلك، ولعلَّ الشاعر قد رمَى إليه، وفيه معنى بياني يتناسب مع أبيات المدح.
وقد جاء في " البحر المحيط ":
(قوله تعالى: {قالَ كلاَّ فَاذهَبا بآياتِنا إنَّا مَعكُم مُسْتَمعونَ} الشعراء 15.
{معكم} قيل: من وضع الجمع موضع المثنى، أي " معكما"، وقيل: هو على ظاهره من الجمع، والمراد موسى وهارون ومن أرسلا إليه. وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يرجح أن يكون أريد بصورة الجمع المثنى، والخطاب لموسى وهارون فقط، قال: لأن لفظة " مع " تباين من يكون كافرًا، فإنه لا يقال: الله معه، وعلى أنه أريد بالجمع التثنية، حمله سيبويه - رحمه الله - وكأنهما لشرفهما عند الله، عاملهما في الخطاب معاملة الجمع، إذ كان ذلك جائزًا أن يعامل به الواحد لشرفه وعظمته) انتهى
والله أعلم.
ختامًا، أشكرك أيها البحَّارُ الماهر، فقد ملأتَ نفسي ثقةً للاقتراب من شاطئ بحرك الزاخر، والاستمتاع بما فيه من نفيس الدرر والجواهر.
دمتَ سالمًا غانمًا
ولك مني عاطر التحايا والتقدير
ـ[حازم]ــــــــ[28 - 11 - 2004, 11:21 ص]ـ
استكمالاً للبحث:
قولك: (هل الحمل على المعنى مطلق في اللغة العربية؟)
أقول – أستاذي الفاضل -: إنني ما زلتُ أتعلَّم أبجديات علم النحو، ولا أقوَى على التصدِّي لإجابة مثل هذه الأسئلة العميقة، غير أني سأحاول أن أجيب حسب فهمي القاصر، وأسأل الله العون والتوفيق.
لا أرَى أنَّ الحمل على المعنى مطلق، بل هناك قواعد وضوابط لهذا الأمر، والله أعلم.
¥