أرأيتَ جملة: " ليتَ الشبابَ يعودُ يومًا "، تقديرها: " ليتَ الشبابَ عائدٌ يومًا "، ولهذا كان لجملة " يعودُ يومًا " محل إعرابي، يقتضي ما ظهر على المفرد، الذي قامت مقامه، فهي في محل رفع خبر " ليتَ ".
وليس المقصود أنَّ " قيام زيد " جملة صحيحة، ثمَّ دخل عليها الفعل " ظنَّ "، بل هو تقدير للمفرد.
وإذا قلتَ " ظننتُ قيام زيدٍ " كان المعنى " ظننتُ زيدًا قائمًا ". والله أعلم.
سؤالك: (هل إعرابي لـ" أيَّ ": بأنها اسم استفهام منصوب، لأنه مفعول مطلق، وعلامة نصبه الفتحة، وهو مضاف و" منقلب ": مضاف إليه صحيح؟)
نعم، - أحسنتَ، بارك الله فيك وفي علمك – هو إعراب صحيح، على أحد الأقوال الثلاثة في المسألة.
قولك: (آمل توضيح: لأنَّ " أيّ " تعرب بحسب ما تضاف إليه، من خلال بعض الأمثلة)
جاء في " الهمع ":
(أيّ، وهي بحسب ما تضاف إليه، فإن أضيفت إلى ظرف مكان فظرف مكان، نحو: " أيَّ جهةٍ تجلسْ أجلسْ "، أو زمان، أو مفعول، أو مصدر، فكذلك وهي لعموم الأوصاف) انتهى
قلتُ، ومن إضافتها للمصدر، قول جميل بثينة " من البسيط ":
صَدَّتْ بُثَينَةُ عنِّي أنْ سَعَى ساعِ * وآيَسَتْ بَعدَ مَوْعودٍ وإطْماعِ
فإنْ تَبينِي بِلا جُرْمٍ ولا تِرَةٍ * وتُولَعي بيَ ظُلمًا أيَّ إيلاعِ
وقول الأخطل " من الطويل ":
وَزارٍ على النَّابِينَ في الْحَربِ لَوْ بِهِ * أضَرَّتْ، لَهَرَّ الْحربَ أيَّ هَريرِ
وأما إذا أضيفت لغير المصدر، فتُعرب حسب موقعها من الجملة، فقد تكون مبتدأ، نحو قول أبي نوَّاس، " من الوافر ":
تعيبينَ الذُّنوبَ، وأيُّ حُرٍّ * مِنَ الْفتيانِ لَيسَ لهُ ذُنوبُ
أو مفعولاً به، نحو قول جرير " من الوافر ":
أتَطْرَبُ حِينَ لاحَ بِكَ الْمَشيبُ * وذلكَ إنْ عَجِبْتَ هَوًى عَجيبُ
وأيَّ فَتًى عَلِمتِ إذا حَلَلتُمْ * بِأجْرازٍ مُعَلِّلُها جَديبُ
أو حالاً، كقول الخنساء " من البسيط ":
حِلْفُ النَّدَى وعَقيدُ الْمَجدِ أيَّ فتًى * كاللَّيثِ في الْحربِ لا نَكسٌ ولا وانِ
أو ظرفَ زمان، نحو قول المتنبِّي " من الخفيف ":
أيَّ يَومٍ سَرَرتَني بِوِصالٍ * لم تَرُعْني ثَلاثةٌ بِصُدودِ
أو مجرورةً بحرف جرٍّ، نحو قول ابن الرومي " من البسيط ":
لأيِّ أمْرٍ مُرادٍ بِالفتَى جُمِعَتْ * تِلك الْفُنونُ فَضَمَّتهُنَّ أفْنانُ
وقول شوقي " من الطويل ":
مِنْ أيِّ عَهدٍ في الْقُرَى تَتدفَّقُ * وبِأيِّ كَفٍّ في الْمَدائِنٍ تُغْدِقُ
والله أعلم
وقولك: (هل معنى قول النحَّاس: " لأن الاستفهام معنى وما قبله معنى آخر، فلو عمل فيه لدخل بعض المعاني في بعض "، أنَّ ظنَّ وأخواتها تفيد معنى خبريًّا، والاستفهام يفيد طلبيًّا، فلو دخل الطلبي في الخبري لدخلت المعاني في بعضها؟)
نعم هذا هول قول النَّحَّاس، وقد حكاه القرطبيُّ – رحمه الله - في تفسيره، وذكره لبيدٌ في " منيره "، والشنقيطيُّ في " أضواء بيانه ".
ولعلَّ معنى كلامه – رحمه الله – أنَّ الفعل " يعلَم " لو لم يُعلَّق، لعَمِل مباشرة في كلمة " أيّ "، وأصبحت معمولاً له، وعندها لن تكون " أيّ " استفهامية، ولن تتَّزِن الجملة على حالها، معنًى وإعرابًا.
ولذلك أرَى – والله أعلم – أنَّ تعليلك صحيح، وفهمَك متَّجه.
وقال أبو محمد مكي القيسي – رحمه الله -: (قيل: إنه لم يعمل فيه ما قبله لأنه خبر، ولا يعمل الخبر في الاستفهام) انتهى
وقال المتنبِّي:
هَلِ الْحَدثُ الْحَمراءُ تَعْرِفُ لَوْنَها * وتَعْلَمُ أيُّ السَّاقِيَيْنِ الْغَمائِمُ
سَقَتْها الْغَمامُ الْغُرُّ قَبْلَ نُزولِهِ * فَلمَّا دَنا مِنها سَقَتْها الْجَماجِمُ
والشاهد فيه: " أيُّ ": اسم استفهام مبتدأ مرفوع، ولم يعمل فيه الفعل " تَعلَمُ "، لأنه عُلِّق عن العملِ لفظًا، وجملة " أيُّ السَّاقِيينِ الغمائم " سدّت مسدَّ مفعولي " تعلم ".
قولك: (" ظننتُ لزيدٌ فاضلٌ " إذا عطفت مفرد أو جملة تكون منصوبة عطفًا على محل المفعول الثاني لـ" ظنَّ "، بمعنى هل أقول: " ظننتُ لزيدٌ قائمٌ ومؤدبًا " هل هذا صحيح؟)
العطف على المحلِّ شائع في أبوابٍ كثيرة، ومنها هذا الباب.
قال ابن مالكٍ - رحمه الله – في " شرح تسهيلِه:
(وسُميَّ الإبطالُ على ذلك الوجه تعليقًا، لأنه إبطالٌ في اللفظ مع تعليق العامل بالمحل، وتقدير إعماله فيه، ويظهر ذلك في المعطوف نحو: " علمتُ لزيدٌ صديقُك، وغيرَ ذلك مِن أمورِك ") انتهى
ووافقه ابنُ هشامٍ - رحمه الله – في " أوضحه "، وقال:
(والعامل المعلَّق له عملٌ في المحل، فيجوز " علمتُ لزيدٌ قائمٌ، وغيرَ ذلك مِن أمورِه "، بالنصب عطفًا على المحل)، واستدلَّ بقول كثير عزَّة " من الطويل ":
وما كنتُ أدري قبلَ عَزَّةَ ما الْبُكا * ولا موجِعاتِ الْقلْبِ حتَّى تَولَّتِ
فقد عطف كلمة " غيرَ " على المحلّ، ولذلك نصبها، وعطف الشاعر كلمة " موجِعاتِ " على المحلّ، ولذلك نصبها بالكسرة نيابة عن الفتحة.
أما قولك: " ظننتُ لزيدٌ قائمٌ ومؤدبًا "، فلا أرَى أن تُقاس عليهما، لأنَّ الظاهر أنَّ كلمة " مؤدبًا " معطوفة على كلمة " قائمٌ "، فهي معطوفة على الخبر المرفوع، وليس على محل جملة " لزيدٌ قائمٌ "، بدليل أنَّ المعنى لا يستقيم إلاَّ بتقدير العامل ومعموله الأول.
ختامًا، أيها الفارس المقدام، لستَ – كما ذكرتَ – ثقيلَ الفهم، بل تعقيبك الرائع يدلُّ على أنك متَّقدُ الذهن، ثاقبُ الفهم، (ما شاء الله)، لكن لا بدَّ أن تُحدَّد اتَّجاهًا صحيحًا لسفينتك العلميَّة، وتبحث عن شاطئ آمِن، فما زلتُ متطفِّلاً على مشاركات أساتذتي الكرام، روَّاد العلم، في هذا المنتدى المبارك، بارك الله فيهم، ونفع بعلمهم.
دمتَ بكلِّ الودِّ والتقدير، مع عاطر التحايا
¥