في طريقي إلى المدرسة صباحاً رأيت زينة كحمامة يرفرف فوق جبينها شريط أبيض. لحقت بها. هربت مني. قرأت في عينيها شيئاً غريباً، بغيضاً، انقلاباً استوفز كبريائي وبنى سداً منيعاً بيننا، أمعنتْ في أزوارها، تعمقت القطيعة فقررت إذلالها. أغفلتها من حياتي وتفكيري، وعقدت صداقة مع ليلى.
عدت من المدرسة إلى البيت في الرابعة بعد الظهر. رأيت الحطب مرمياً، والحطابون ينيخون جمالهم للراحة. شممت رائحة شياط.
بادرتني نظرة من أمي ملبدة بالغضب. لاحظت رعشة خفيفة في شفتيها. ردت الباب بنزق:
-عجلي عجلي غيري صدارك .. عندما أم زينة.
-أم زينة؟ وما شأني أنا؟
امتثلتُ. فتحتُ باب الصالة فضرب الحائط. هاجمتني رصة لئيمة تعلو شفتي جارتنا الرقيقتين مضمومتين على ازدراء. لمحت بين يديها كتاب التاريخ الطبيعي الذي لابنتها. فجأة رمته من يدها على الطاولة قرب فنجان القهوة الذي لم تمسه ورددت مرتين:
-باطل، باطل يا أم هشام، كيف ينجح ابنك في حياته. كيف يسمح لنفسه وينزلق نحو فعل مشين كهذا وهو في هذه السن.
فتحت الكتاب وتلوت في الكرسي، ثم قربته من أمي:
-انظري بنفسك. استعاره من زينة ثم رده وعلى جلدته الداخلية أشعار غرامية .. بالحبر الأحمر.
فركت كفيها باستياء وقلبت شفتيها كضفدعة.
-باطل، باطل.
ركبني الذهول حقاً أمام صمت أمي. فتحت فمي لأدلي بشهادتي فأسكتتني بقسوة.
-ولا كلمة .. هزت الكتاب في وجهي، ثم رمته على الأرض فانفرطت صفحاته.
أكملت:
-أشعار غزل لبنات الناس. كيف يتجرأ، كيف تمكنت أصابعه من خط كلمات حب ليست من حقه. باطل، باطل.
تأبطت الجارة محفظتها الجلدية السوداء، وهرولت تاركة إيانا مشدوهتين وكلماتها الواخزة تسبح في فراغ الغرفة.
لبدت في مكاني، تلبستني مشاعر عديدة. أخفقت في القبض عليها كاملة. أحببت لو أركض خلفها وأجرها من منديلها، وأمعسها بقدمي، اضربها، أعفر أنفها الرفيع البارز لأثأر لأمي الدّهشة.
أرخت والدتي رأسها حزينة. أدلت رقبتها النبيلة على ضلفة باب غرفة الضيوف مهانة مكلومة إلى آخر عظمة في بدنها. لم تجرؤ على الكلام. مسحت دموعها عن خديها ببطء وفجأة تيقظت من ارتباكها. تحفزت نحوي تريد الإمساك بتلابيبي، وتفجير الغضب.
خطا أبي خارجاً من غرفته، متوجهاً إلى المقهى. قرأ حيرة على وجهينا، رمى على الكرسي صحيفة الألف باء، ومجلة المضحك والمبكي الأثيرة لديه. استدار عائداً إلى غرفته. نبر بصوت آخر:
-أم هشام .. الحقيني.
جأرت أمي مكفكفة دموعها:
-شفت، شفت ابنك سامي، ماذا فعل بنا، بهدلنا أمام الصغير والكبير، مرغ سمعتنا في الوحل، تصور ..
قاطعها:
-اهدأي يا امرأة، لم أفهم شيئاً من الأول.
-لا أول ولا آخر .. والله، والله. حلفت بالعظيم، لن أبقى في هذا البيت. لم أعد احتمل عجرفة الأب، ولا ميوعة الأولاد ولا ميوعة الجيران.
رفع أبي حاجبيه متسائلاً كيف أقحمته في مشاكلها .. صرخ بها مهدئاً فأوقف هذيانها .. تقطع الكلام في حلقها.
-ابنك سامي، ابنك عشقان ما شاء الله، مع من؟ مع ابنة جارنا العزيز، يا خجلي!
-سامي، عشقان، ألا تعرفين معنى هذه الكلمة؟
انخضت عيناه، وتغلب لونهما الأحمر القاني على لون بشرته وشعره الأشقر.
-أعيدي .. لم أسمع.
-يا سيدي .. وحكت القصة كاملة.
أخضع ردة فعله وثورته بعد عذاب إلى تحكيم العقل رد حانقاً:
-أهذا ما تعلمه في مدرسة الفرير؟ تحملت كلام الناس، حاربت اخوتي، ليصبح بشراً. بعت بيتاً، بيوتاً، لأصرف عليه وعلى إخوته في المدارس الأورباوية ..
وعلى حين غرة صرخ بملء صوته:
-الجيران، عرضي، شرفي فهمت؟ أين هو، أين، ناده هذا جزائي.
ضرب على صدره مهدداً:
أجابت بضعف:
-لم يعد من المدرسة، لفت يديها حول صدرها تكبت زفيراً حاداً متقطعاً، بينما راحت شفتاها تبسملان.
اقتربت من أبي مسترحمة.
تخاذلت أمي أمام ردة فعله العنيفة عائدة إلى كامل رشدها.
-أبو هشام، مابودنا فضائح ولا شماتة، هنا حفرنا، وهنا طمرنا. والله لو ضربته كفاً لتركت البيت لك، وسافرت إلى بيروت .. كراج العلمين موجود، وأشارت بيدها نحو الباب.
استدار بجسده المديد نحوها. لم تعجبه لهجتها الطارئة، وخروجها عن المألوف، بظّت عيناه من محجريهما .. لكنه التزم الصمت.
خرجت أمي من الغرفة ولسانها يقول:
-هل تجاوزت الحدود معه، هل أساءت إليه، هل سيغفر لها جرأتها المفاجئة على سلطته؟
لعلع صوت أبي:
¥