تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

-ماشي الحال، اليوم نعقد جلسة مع العائلة وندبر الأمر زفر. كان زفيره قوياً، يوقد حطباً.

تكركب البيت الملموم على الحب بحضور أختي هدى التي جاءتنا ضيفة مكرمة، كانت خارجة من الحمام على صراخ أبي موردة الخدين مجدولة الشعر الأشقر الطويل. هتفت:

-سلمى ماذا جرى؟ كأني سمعت صوت بابا على غير العادة.

أجبت:

-قام يوم القيامة .. أمك ستطلق وانتحبت. ستطلق أمك.

رمت المنشفة الكبيرة من يدها فانحلت ضفيرتها على كتفيها. بدت حورية جميلة. شدتني من شعري.

-ثقيلة الدم، غليظة، هذه كلمة كبيرة من أين أتيت بها.

-سمعتها من أبي يهدد بها أمي وهو يدلف إلى غرفته غاضباً، على كل حال هيئي نفسك اليوم لحضور المحاكمة.

أمسكتني من كتفي وثبتتني على الحائط.

-لن أتركك حتى تقولي كل شيء.

-يا ستي، كتب سامي قصيدة غرامية على كتاب زينة، فهمت الآن؟

اربد وجه هدى، لعلها تذكرت ابن عمها الذي قبر حبهما قبل أن يزهر. فابن العم العزيز سافر إلى فرنسا وتزوج هناك، وما عاد إلى بلدها مطلقاً.

حكم أبي على سامي حكماً جائراً. أجبره أن يقف على قدم واحدة طوال السهرة، ووجهه إلى الحائط، ولم تنفع معه واسطة.

تتلاعب الليالي بي، تمد لي شرائط ملونة، أتعمشق عليها، ثم ما تلبث أن تنقطع فوق جنازة قتيل شهيد، ويزداد عدد القتلى كل يوم. تحمل الأكف الشابة جثمان الفقيد إلى مقبرة الدحداح.

ومئات الحناجر الغاضبة تردد:

-والشهيد حبيب الله، لا إله إلا الله، تسقط فرنسا، يسقط الانتداب! يركض النعش خفيفاً، ليصبح منارة فرماداً.

أتساءل:

-ما الموت، من أنا، من أين أتيت، وكيف؟ أتعب فأمتطي حزمة الضوء اللامعة التي تخترق زجاج نافذتي من نور الشارع، وأتحول إلى ساحرة.

فتحت حادثة سامي العابرة فجوة في ذهني. ألقيت الانكماش جانباً فتجرأت، وبنيت بيتاً لأبطال روايات قرأتها، وقبضت على عشقهم، وفروسيتهم، لازمتهم، سيّرتهم، دفعتهم إلى القبر أو الخلود.

كانت ساعات النوم أقربها إلى نفسي. أخلو بها إلى معبدي المقدس لا يلجه غيري أرتب زواياه على مزاجي دون أن يعترضني أحد. هناك أستنطق دخيلتي بحرية، وأبوح لها بأسراري.

كتبت نتفاً عن حبيبين انتحرا لم يجدا منفذاً إلى الهواء فآثرا الموت وحيدين، متعانقين. جاء موتهما شاهداً على ظلم الإنسان وأنانيته.

التقطت أذناي القصة من حديث مكنون بين أمي وهدى. كانت تهمس وأنا أسارق النظر إليهما:

-تعرفين جميلة الكاظم طالبة دار المعلمات، البنت الحلوة، والدها إمام جامع الشمسية .. أحنت هدى رأسها، ونبرت بصوتٍ عالٍ:

-ماما، ارفعي صوتك سلمى صغيرة ومشغولة بوظائفها.

-يا حرام على شبابها، انتحرت.

-المجنونة! باعدت هدى بين قدميها، فارتخى ثوبها في حجرها، ووقعت صنارتا الصوف من يدها.

قربت أمي ركبتها من ركبة ابنتها، لكزتها.

-انتحرا معاً، شربا سم الفئران. جميلة الكاظم، وعزيز الأسعد، الحب، الله يلعن الحب، هذا ما تعلماه من كلام الروايات والأفلام.

-يوجد ألف وسيلة للالتقاء، الزواج، الخطف، واسطة العائلة. غباء ما بعده غباء أن يلجآ إلى الموت. الحياة غالية.

-لم يقصر الولد، خطبها، ولم يرضوا: بسبب الفارق المادي بينهما. ردوه خائباً يائساً.

صفنت هدى وعضت على شفتيها أسيانة، تنهدت:

-سخافة، تخلف أين نحن وأين العالم .. الزواج ليس فراشاً وليست المشكلة أنها رفضت ابن عمها كما أرى، بل لأنها شقت عصا الطاعة على إرادة العشيرة. هذه هي الحقيقة.

-ما هذا الكلام؟ هدى!

-ماما، انتحارهما احتجاج كبير لمن يفهم. السكوت لا يعني الرضا، معناه الرضوخ، أو الموت البطيء، أو عدم القدرة على الصدام. أتعرفين لِمَ؟ لأننا نحن البنات نخاف، نخاف وحتى الشباب يخاف.

عقدت الدهشة لسان أمي. لأول مرة في حياتها تقع على زرّ ورد يخفي أريجه ويتطلع إلى جو الانعتاق.

تغير الحديث بينهما، فلم تقويا على الاسترسال أو الخوض في العمق. أضافت أمي:

-ولكن الحمد لله بقيت عذراء ماتت وظلت عذراء، هكذا قال الطبيب الشرعي.

-يا لطيب على هذه الفضيحة. صرخت هدى.

-أبداً .. طارت أمها من الفرح، برأت ابنتها أمام الناس. ظهر شرفها سليماً صحيح ماتت، ولكن العائلة ظلت مرفوعة الرأس.

تساءلت بيني وبين نفسي:

-عذراء ماتت وبقيت عذراء .. عصي الفهم علي.

اندفعت جارتنا أم ناديا إلى الغرفة هائجة تحمل صينية امتلأت بكؤوس فضية منقوشة نقشاً هندياً.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير