تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

-أرجوك يا أم هشام. خلّهم أمانة عندك، لم يترك شيئاً في البيت إلا حطمه. حتى ملابسي وملابس البنات مزقها كلها.

ارتعشت هدى:

-هذا مجنون، بدائي، مكانه المرستان، وليس بين البشر.

-مسكين، خرج الأمر من يده .. أنتْ المرأة المقهورة وأكملت: إنه لا يعي نفسه. عندما يشرب أبو أولادي العرق يتحول إلى وحش لا أعرفه.

-اتركيه، عاقبيه، اذهبي إلى أهلك.

-ومن له غيري ومن لي غيره، كلانا غريبان هربنا من ليبيا.

كيف أتركه. وإذا رحلت، والبنات؟ البنات كسرن ظهري. آه .. هرولت أم ناديا خائفة عائدة إلى بيتها.

علقت هدى:

-يا لحظي .. ظهرت المشاكل على وجهي .. البيوت ملأى بالأسرار الحزينة. من يدري بالمكنون .. هرت دمعتان من الفضة على خديها.

شق الفجر خيوطه. لمحت عباءة أبي المقصبّة ترفرف عبر الباب المفتوح كسارية سفينة أرخت شراعها للريح فيما تدق عصاه الأرض بنغمات متواترة توقظ فيّ رغبة النهوض، ينطلق من الحارة يومياً إلى جامع الشيخ محي الدين في سوق الجمعة حيث يعتكف وفي صدره ينثال الأمان وتهدأ النفس، تملأ خياشمي رائحة الخبز التنوري الطازج. ممزوجة برائحة الفول المدمس بالثوم والليمون. ها قد عاد .. بعد قليل ستفوح رائحة القهوة .. ويهب البيت.

أفهم نظرة أمي الملحاحة بفطرة أنثوية. تقف وتصوب عينيها علي وهي تبتسم. أغض النظر خجلة .. فقد نبت نهداي وآلماني.

تروزني خالتي الكحيلة الجميلة، إذ تأتينا زائرة من بيروت وهي تفرد حقائبها الملأى بالأثواب الحريرية، والخواتم الفيروزية .. تروزني كخروف حلل ذبحه.

-صرت صبية "يا سلمى" زهرة مفتحة. مثلك صار عندها أولاد.

-أم عبد، ما له مكان هذا الكلام، ما زالت صغيرة، على مهلها، لم العجلة؟ جربنا وشفنا أختي أعصر لك كأس ليمون، لا بد انك دائخة من الطريق. طلعة ظهر البيدر صعبة.

أعلم أن أمي على عجلة من أمري. تريد أن تتخلص من الأمانة سالمة قبل أن تهتك كما فعل القدر بجميلة وعزيز.

أخذ يتردد علينا من بيروت ابن خالتي "عبد الحميد" جعل من أمه عباءءة يتستر خلفها. برقت عيناه عندما وقعتا على زريّ الورد الصغيرين في صدري. تلكأ قرب الباب.

-سلمى، أنت سلمى، غير معقول. صرت صبية.

صدمتني أظافره المسودة. شممت في خيالي رائحة السيارات والشحم وورشات التصليح وقطع الغيار تنفر من أنفاسه وتفوح من أعطافه.

تكرر أمي لازمتها على أذني:

-ابن خالتك يقص ذهب .. صنعته مربحة،

يدحُره بطلي الذي يخرج من الكتب، فارساً طويلاً ممشوق القامة شديد الاعتداد، قوي الملاحظة، يزين وجهه شارب أسود أنيق.

أوقفني بطلي الخيالي هذا في إشكالات المقارنة، أيقظ في لا وعيي تهيباً من الرجل العادي، ورغبة البوح على الورق.

بات ابن خالتي صاحب الورشات الميكانيكية زائراً أسبوعياً، يأتينا بسيارته "الرينو" من بيروت، ملمع الشعر، مطيب الأعطاف، نظيف الملابس. يبيت ليلة، ثم يعود صباحاً باكراً، يتحمل نزقي ومزاجي بصير عجيب، ثم ملّ مني.

-يا الله، يا ماما، حفظت الدرس، لا أريده .. ضربت الأرض بقدمي وصفقت الباب خلفي بقوة.

قال الطبيب وهو يطفئ النور بين عينيه:

-يجب أن تضعي نظارة بيضاء. عندك انحراف بسيط.

علقت أمي شاكية:

-من أول عمرها يا دكتور. لا يغرّك طولها، ما تزال صغيرة.

في ظني أنها خافت علي من العنوسة، فالناس لا يحبون النظارات على عيون الصبايا.

انكمشت على بعضي، وبدأت أغوص في عزلة محببة أفسدتها كلمات من إخوتي مجدولة بالسخرية ها قد تقدمت عليك ابنة عمك الهام، أضحت أحلامها حقيقة، رزقت عريساً تاجراً في سوق الحرير.

هتفت عندما رأيتها:

-يا ربي .. كم تغيرت يا إلهام؟

صارت نصف امرأة. وجه ملطخ بالأحمر والأبيض بعيد عن البساطة والبراءة تتعبد نفسها بالمرآة.

راقبت عينيها في حفل الغداء، كانتا تزغردان مشوقتين إلى عريسها الفتى صراحة دون حرج، انبسطت أمامها الأمور المعقدة بشرعية مباركة.

طقت ضحكة بدرت منها.

خلف الباب رأيتها تتلوى عجينة لينة بين يديه. يهصرها، وتتسلل أنامله إلى قميصها.

انفردت بأوراقي، كتبت ما لاحظت. ثم خبأت أفكاري بين طيات ملابسي الداخلية.

تطير حمامة أخرى من الحارة، تطير "زينة" التي انقطعت كل علاقة لها مع سامي تطير من المهاجرين إلى عرنوس لتحط زوجة في بيت وثير أنيق، ملكة على قلب طبيب خمسيني.

زفت الخبر جارتنا "أم زينة" متباهية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير