هذا وقد كان في الأقدمين هذا الصنيع -أي تجميل التاريخ- وقد رأيته في كتاب الإمام أبي بكر بن العربي "العواصم من القواصم" خاصة عندما تكلم على تاريخ بني أمية.
أما المحدثون فبعضهم كتب كتابة عجيبة لا تقبل بحال؛ فمن ذلك الكتاب الذي صنفه أحدهم بعنوان "الحجاج بن يوسف المفترى عليه"، وهذا دفاع أعمى عن رجل ظالم ولغ في الدماء ولوغاً بلغ مبلغ التواتر، وكان جباراً عسوفاً، يأخذ الناس بأدنى شيء وأقله، بل في بعض الأحيان بدون سبب، فمثل هذا دفاع يبغضه الله ويبغضه المؤمنون.
وهناك مَن بالغ في الدفاع عن بني أمية في بعض سقطاتهم وتجاوزاتهم، نعم إن في بني أمية مزايا ونقائص فدفع النقائص عنهم عمل باطل كما أن غمطهم حسناتهم فعل محرم في شرعنا.
3. عدم تقبيح التاريخ:
هناك اتجاه عند بعض الكتاب بأن التاريخ الإسلامي كله شر وفتن ولم يسلم منه إلا مدة محدودة زمن الصديق والفاروق -رضي الله عنهما- أما ما عدا ذلك فليس فيه إلا الفتن والمشكلات، وهذا غلو واضح وتزوير فاضح؛ إذ التاريخ الإسلامي هو تاريخ بشري فيه الخير والشر، وفيه مُدد الهدوء وحوادث الفتن، بل هناك مدد مضيئة في التاريخ الإسلامي أزعم أنها هي الأطول والأكثر امتداداً في التاريخ، وللأسف إن حامل لواء هذه الفرية -غالباً- هم المتحررون "الليبراليون" واللادينيون "العلمانيون" لحاجة في نفس يعقوب، وهي أنه إذا لم يستطع الصدر الأول أن يعيشوا في أمن واطمئنان وهدوء تحت راية الشريعة فلن يستطيع ذلك مَن يجيء من بعدهم، ومرادهم أن يثبتوا هذا وأمراً آخر هو أن الشريعة نفسها لا يمكن تطبيقها وإن طبقت فلن تجلب الرخاء والأمن.
ولابد عند ذكر تاريخنا من ذكر تواريخ الأمم الأخرى مقارناً بتاريخنا لنعرف أن تاريخنا أفضل من تواريخ جميع الأمم بل ليس بينه وبينها أفعل تفضيل.
4. القراءة المركزة أولاً:
يهاب أكثر قراء التاريخ من دخول المبسوطات الضخمة "الموسوعات" التي ألفت فيه كـ "البداية والنهاية" للحافظ ابن كثير، "والكامل" لابن الأثير، و"تاريخ الرسل والأمم والملوك" لابن جرير الطبري رحمهم الله تعالى، وذلك لأمرين:
أ. ضخامة المادة وطولها مما يصيب القارئ بالملل.
ب. كثرة الاستطرادات التي تخرج بالقارئ عن النسق العام للموضوع بحيث ينتهي إلى تشتت وخلط؛ فإن من عادة المؤرخين القدامى أن يخللوا سرد الحدث قصائد شعرية أو تراجم أوحدثاً تاريخياً آخر، وقد يعجز غير الخبير بمناهج تلك الكتب أن يتابع موضوعه الذي يريده.
ولعلاج هذا الأمر فيحسن بالقارئ أن يقرأ كتاباً على الطريقة العلمية الحديثة التي تلم بالموضوع بإيجاز نسبي وترتيب منهجي دون استطراد أو تطويل، وذلك نحو كتاب "التاريخ الإسلامي" لمحمود شاكر.
5. فهم الفرق بين مناهج المؤرخين القدامى والمحدثين:
هناك فروق مهمة في طرائق كتابة التاريخ بين المؤرخين القدامى والمحدثين؛ ولابد من فهم هذه الفروق للاستفادة المثلى من قراءة التاريخ، ومن أهم هذه الفروق هي:
أ. الأسلوب:
المؤرخون القدامى يكتبون المادة التاريخية ويخلطونها بعاطفتهم وآهاتهم الحزينة أو عبارات الإعجاب والإشادة، وهذا منتشر جداً في كتاباتهم، بينما المؤرخون المُحْدثون لا يكتبون بهذه الطريقة حرصاً منهم على اتباع المنهج العلمي الخالي من العواطف المصاحبة للمادة المسرودة، لكن في ظني أن أي مؤرخ في الدنيا لا يمكن له أن يتخلى عن عاطفته تماماً وهو يكتب، وهذا الذي يطلق عليه أحياناً فلسفة المؤرخ للتاريخ، فهذه لا سلطان لأحد عليها فهي نابعة من عقيدة المؤرخ وبيئته وأحوال أمته، فمهما ادعى مؤرخ عدم التحيز لهذه الثلاثة فهو يخادع نفسه، لكن يمكن أن يقال على وجه الإجمال إن أسلوب المُحْدثين فيه جفاف ويُبس وأسلوب القدامى فيه عاطفة ولين وجمال، وليتضح هذا إليكم هذا النص الذي قدّم به المؤرخ ابن الأثير في كتابه "الكامل" لأحداث غزو التتار للعالم الإسلامي في القرن السابع الهجري:
لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلاً وأؤخر أخرى؛ فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟
ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟
فياليت أمي لم تلدني ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً.
¥