الأمر الأول: أن قولكم: إن الجنة لمن عمل صالحا ... إلى آخره منقوض بأطفال المسلمين الذين لم يعملوا، وحالهم في العمل كحال أطفال المشركين، فإذا تقرر ما تقدم من الإجماع دخولهم الجنة، فكذلك هنا، وما كان جوابكم عن أطفال المسلمين هو جوابنا عن أطفال المشركين فيما يتعلق بالجنة واستحقاقها بالعمل كما قلتم.
الأمر الثاني: أنه قد جاء في الصحيح أن الله عز وجل يخلق للجنة خلقا ولفظه عند البخاري (رقم4850) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا " وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا "، وهذا يدل على أن الجنة يدخلها من لم يعمل صالحا، ويضعف القول باستحقاق الجنة بالعمل فقط.
الأمر الثالث: أما القول بأن النصوص لا تجتمع إلا عليه فغير صحيح، حيث إن أوجه الجمع لا تنحصر في هذا الوجه، وإن كان أقرب إلى الجمع من غيره لو صحت فيه الأخبار، ولكن فيه فرق بين كونه أقرب الأوجه للجمع وبين كون أوجه الجمع تنحصر فيه، على أنه ضعيف من جهة عدم صحة ما يدل عليه، وقد تقدم الكلام على طرق الأحاديث الواردة فيه وأنها لا تصلح للتقوية بحال.
فإذا كان كذلك فقد جمع من جزم لهم بالجنة بأن أحاديث الوقف وتفويض علمها إلى الله لا تعارض الأحاديث المصرحة لهم بالجنة، وذلك إما بحمل أحاديث التفويض على النهي عن الخوض فيها كما قيل في حديث عائشة عند مسلم الوارد في الطفل الأنصاري عند فريق من العلماء أو حملها على عدم الجزم للمعين وإن كان يقال بأنهم في الجنة على العموم كما قال بعضهم في حديث عائشة المتقدم، وإما بحمل هذه الأحاديث بأنها متقدمة، وأحاديث دخولهم الجنة متأخرة وتلمس القرائن في ذلك.
وكذلك بحمل الأحاديث المصرحة بدخول أفراد منهم على الخصوص، وقد علم أن الخاص لا يعارض العام، والمقصود هنا هو بيان أن أوجه الجمع بين النصوص لا تنحصر في هذا القول كما يوهم قول من اختاره ورجحه لذلك والله أعلم.
الوجه الثاني: المعارضة بالأحاديث الأخرى
وهو أن هذه الأحاديث مع ضعفها – كما تقدم – معارضة بالأدلة القرآنية، والأحاديث الصحيحة، ولا سبيل لتأويل ظواهر الأدلة الكثيرة المذكورة، لأن التأويل فرع التصحيح، ولم تصح أحاديث امتحان الأطفال كما تقدم، فالتمسك بظواهر النصوص التي ليس لها معارض صحيح متعين، ومن تأولها من العلماء فإنما تأول لظنه صحة شيء منها، وليس الأمر كذلك، وإذا كان الأمر كذلك فالأحاديث الضعيفة في الامتحان تزداد بالمخالفة ضعفا على ضعف.
الوجه الثالث: المعارضة بالنظر
وبيانه: أن بعض العلماء اعترضوا على القول بالامتحان في الآخرة: أن الآخرة دار جزاء وليست دار عمل وابتلاء، قال الحليمي: إن دار الاخرة ليست بدار امتحان، فإن المعرفة بالله تعالى فيها تكون ضرورة، ولا محنة مع الضرورة، ولأن الأطفال هناك لا يخلوا من أن يكونوا عقلاء أو غير عقلاء، فإن كانوا مضطرين إلى المعرفة فلا يليق بأحوالهم المحنة، وإن كانوا غير عقلاء فهم من المحنة أبعد أهـ ().
قال أبو عبد الباري: وهذا الوجه ضعيف، وقد ناقشه ابن القيم من وجوه في طريق الهجرتين، ولا يعني عدم صحة الأحاديث الواردة في امتحان الأطفال أنه لا يكون فيه امتحان مطلقا، بل ما صح من الأحاديث المشار إليها في امتحان من مات في الفترة ومن ذكر معه يدل على حصول الابتلاء في القيامة قبل استقرار الناس إما في الجنة وإما في النار، وعلى هذا يبقى الوجه الأول والثاني بمكان من القوة دون الوجه الثالث والله أعلم.
الوجه الرابع: هل أهل السنة أجمعوا على الامتحان؟
فإن قيل ذكر ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/ 103) أن هذا مذهب أهل السنة، وأنهم متفقون عليه فقال: وهذا قول جميع أهل السنة والحديث اهـ، وقال ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 100): وقد حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري إجماعا عن أهل السنة والجماعة؟.
قلنا: الجواب عليه من وجوه:
¥