تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقد قال تبارك وتعالى: (كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

قال بعض العلماء في تفسير الآية: أي أنه لا يهديهم؛ لأن القوم عرفوا الحق وشهدوا به وتيقّنوه وكفروا عمداً، فمن أين تأتيهم الهداية؟ فإن الذي تُرتجى هدايته من كان ضالا ولا يدرى أنه ضال، بل يظن أنه على هدى فإذا عرف الهدى اهتدى، وأما من عرف الحق وتيقنه وشهد به قلبه ثم اختار الكفر والضلال عليه فكيف يهدي اللهُ مثل هذا؟

وقبل الدخول في الأسباب نتطرق إلى مراتب الهداية.

وقد قسّمها ابن القيم رحمه الله إلى أربع مراتب:

المرتبة الأولى:

الهداية العامة، وهي هداية كل مخلوق من الحيوان والآدمي لمصالِحِهِ التي بها قام أمْرُه.

قال تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى)

فذكر أموراً أربعة: الخلق والتسوية والتقدير والهداية، فسوّى خلقه وأتقنه وأحكمه ثم قدّر له أسباب مصالحه في معاشه وتقلباته وتصرفاته وهداه إليها والهداية تعليم، فذكر أنه الذي خلق وعلم، كما ذكر نظير ذلك في أول سورة أَنْزَلَها على رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى حكاية عن عدوه فرعون أنه قال لموسى: (قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) وهذه المرتبة أسبقُ مراتب الهداية وأعمُّها. اهـ.

وهذه المرتبة هي التي قال الله فيها (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)

المرتبة الثانية:

هداية البيان والدلالة التي أقام بها حجته على عباده، وهذه لا تستلزم الاهتداء التام.

قال تعالى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)

يعني بيّنا لهم ودَلَلْناهم وعرّفناهم، فآثروا الضلالة والعمى.

وقال تعالى: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ)

المرتبة الثالثة:

وهذه المرتبة أخص من الأولى وأعم من الثانية، وهي هدى التوفيق والإلهام.

قال الله تعالى: (وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) فَعَمّ بالدعوة خلقه، وخص بالهداية من شاء منهم. قال تعالى: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) مع قوله: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)

فاثبت هداية الدعوة والبيان ونفي هداية التوفيق والإلهام، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في تشهد الحاجة: من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وقال تعالى: (إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ) أي من يضله الله لا يهتدي أبدا، وهذه الهداية الثالثة هي الهداية الموجبة المستلزمة للاهتداء، وأما الثانية فشرط لا موجب، فلا يستحيل تخلف الهدى عنها بخلاف الثالثة، فإن تَخَلُّف الهدى عنها مستحيل.

المرتبة الرابعة:

الهداية في الآخرة إلى طريق الجنة والنار.

قال تعالى: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ)

وأما قول أهل الجنة: (وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ)

فيُحتمل أن يكونوا أرادوا الهداية إلى طريق الجنة، وأن يكونوا أرادوا الهداية في الدنيا التي أوصلتهم إلى دار النعيم، ولو قيل: إن كلا الأمرين مراد لهم، وأنهم حمدوا الله على هدايته لهم في الدنيا، وهدايتهم إلى طريق الجنة كان أحسن وأبلغ. انتهى كلامه رحمه الله.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير