والشكر مرتبط دائما بنعم الله على العبد، كما أن الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، من حيث امتثال الأخيرة لأوامر الله تعالى.
والحمد يكون باللسان فقط، والشكر كما مضى أعمل وأشمل.
يأتي الثناء ها هنا ليكون هو تاج العارفين الذي يحوي الشكر والحمد معا، وهو يتميز كونه من اللسان، لكنه ذو صلة بالقلب، بل هو من القلب ينبع، وعلى قدر الثناء وما يتلفظ به العبد لله تعالى من ألفاظ حِسان يكون هو حال القلب ومدى تعلقه بالرب الكريم المتعال.
والثناء يكون بقدر عظم مكانة الرب في قلب العبد، ومدى معرفته بجلاله وكماله، ومدى حياة القلب بجمال الله تعالى، وأسمائه وصفاته. لذا يبرز هنا أمر مهم، وهو: مدى معرفة العبد بربه وما يتصف به، كي تخرج تلك المعاني القلبية، إلى ألفاظ مبنية فيكون ثمة الإبداع في مبدع الكون سبحانه وتعالى.
فلا غرو أن نجد النبي عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث الصحيح: (إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة).
وهذا الإحصاء لأسماء الله تعالى ليس المراد به الحفظ اللساني والقلبي عن ظهر غيب، دون التمعن والتدبر في معاني هذه الأسماء، بل دون التحرك بها في واقع الحياة، وصناعة الأمور، فكل اسم لله تعالى له معنى، يراد للعبد أن يتحقق به، في قلبه حتى يتشربه، فيكون منه التأثر بدرجات، فيكون ثمة الحمد، ويكون الشكر، ويكون أبرزها الثناء على ذي الجلال والكمال.
فكما أن معاني أسماء الله وصفاته لها أثر في كيفية المدح وألفاظه، فإن غزارة المعاني القلبية في قلب العبد لها أثرها الكبير أيضا، من حب وخوف ورجاء وتوكل، ونحو ذلك، فمن كانت هذه المعاني في نفسه باهتة وغير متفاعل معها، أنا له بمدح الله تعالى، إلا وهو مفرغ المضمون.
إضافة لغزارة المادة التعبيرية، فمن كان دائم الاطلاع على كتب الرقائق، تجدينه يأخذ منها ويصطاد المعاني الطيبة، ويسجلها ويدونها، ويرددها، بل ويعيش معها، فتكون بعد فترة - بحسب الحال - هي معانيه وهي ألفاظه.
وهو أمر من توفيق الله تعالى، يوفق له بعض عباده الصالحين، لأنه من أعظم القرب وأجلّها عند الله تعالى، ومهما يوفق العبد لأبواب الثناء على الله تعالى، لا يقدر على إيفاء الرب الكريم حقه من المدح وعبارات ومعاني الثناء، للعجز عن إدراك الله تعالى.
فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك) وهو عليه الصلاة والسلام أعبد الخلق لله، قال الغزالي في الإحياء: " ليس المراد أني عاجز عن التعبير عما أدركته بل معناه الاعتراف بالقصور عن إدراك كنه جلاله، وعلى هذا فيرجع المعنى إلى الثناء على الله بأتم الصفات وأكملها التي ارتضاها لنفسه واستأثر بها فهي لا تليق إلا بجلاله ".
لا نحصي ثناء عليك أي لا نطيقه ولا نبلغه ولا تنتهي غايته، ومنه قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل: من الآية20] أي لن تطيقوه، أنت كما أثنيت على نفسك، اعتراف بالعجز عن تفصيل الثناء، ورد ذلك إلى المحيط علمه بكل شيء جملة وتفضيلا، فكما أنه تعالى لا نهاية لسلطانه وعظمته فكذلك لا نهاية للثناء عليه لأنه تابع لسلطانه وعظمته فكذلك لا نهاية للثناء عليه.
وفي يوم القيامة عند الكرب، وعند الشفاعة، ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (فيلهمني الله من الثناء عليه ما لم يلهمه لأحد من قبلي .. ) فكون المقام صعب وموقف كرب، وموقف شفاعة يكون الإلهام للثناء الذي لم يعطه أحد من البشر، فيكون ثمة قبول لشفاعة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام فينا.
وخير من يدرك الألفاظ ويعطيها قيمتها هو حبيبنا محمد عليه الصلاة والسلام، فعن أنس رضي الله عنه قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بأعرابي وهو يدعو في صلاته وهو يقول: يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره الحوادث، ولا يخشى الدوائر، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار، ولا تواري منه سماءٌ سماء ً، ولا أرض أرضاً، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره ... اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم ألقاك فيه.
¥