فما إن وصل دمشق حتى أخذه والده إلى مساجدها، و أجلسه إلى علمائها، ينهلُ من علومهم و معارفهم، في جميع علوم الشريعة و العربية و، فأخذ عن العلماء الأرنؤوطيين الذين هاجروا إلى الشام في تلك الفترة، أمثال: الشيخ ملا باختياري، المشهور بحمدي الأرنؤوط، و الشيخ نوح نجاتي الألباني – والد العلامة الألباني – و الشيخ سليمان غاوجي الألباني.
كما أخذ عن غيرهم؛ كالشيخ صبحي العطار و الشيخ محمود فايز الدير عطاني حيث قرأ عليهما القرآن كله مجودا، و قد كان الشيخ محمود يقول عنه – وهو غلام-: هذا الغلام قراءته سليقية.
كما لزم الشيخ سعيد الأحمر التلي الأزهري الساعاتي مدة خمس سنوات، أخذ عنه علوم الشريعة و اللغة، كما أخذ عنه أيضا مهنة تصليح الساعات.
و لما رأى نبوغه وحرصه على العلم، و جهه للمسجد الأموي و ساعده بالمال و قال له: يا بني أنت لا تصلح إلا للعلم.
كما لزم الشيخ محمد صالح الفرفور مدة عشر سنوات، فقرأ عليه خلالها: متن الطحطاوي و نور الإيضاح و مراقي الفلاح و حاشية ابن عابدين و غيرها، كذلك قرأ عليه في فنون العربية و التفسير.
قال عنه شيخنا: أخذت عنه العلم، وتعلمت منه خوف الله تعلى.
كما أخذ أيضا على خيرة علماء الشام آنذاك، العلامة الكبير محمد بهجت البيطار، فكانت له به صلات و اجتماعات، و كان يقول له: (أنت يا بني، مشربك من مشربنا، فأرى أن تدرس مكاني).
و هذا الذي حصل، فقد استمر الشيخ يدرس كتب العلم في جامع الدقاق و جامع الشربجي بعد وفاة العلامة البيطار، و كان صورة من شيخه البيطار.
قال لي مؤذن الشيخ البيطار: (من أراد أن ينظر إلى الشيخ بهجت البيطار فلينظر إلى الشيخ عبد القادر، فإنه أشبه بسمته، فهو نسخة منه في الأخلاق و حسن المعاملة).
هذا، و لقد استفاد باجتماعه بخيرة علماء تلك الفترة، من أمثال ابن باز علي الطنطاوي و محمد أمين المصري و الألباني وابن مانع و الرفاعي و عبد الرحمن الباني و محمد بن لطفي الصباغ و غيرهم ممن كان يجالسهم و يجتمع بهم - رحم الله الأموات منهم و حفظ الأحياء -.
كما تأثر بأخلاق العالم المربي الأستاذ عبد الرحمن الباني حفظه الله، و كان يقول عنه: إنه يمثل أخلاق السلف.
و لقد رزق الله تعالى شيخنا رحمه الله منذ صغره حافظة قوية، فكان يحفظ في فترة الاستراحة زمن دراسته في مدراس دمشق خمسة أحاديث، و قد قرأ أول ما قرأ " صحيح مسلم " ثم أقبل على بقية الكتب الستة.
و كان كثيرا ما كان يكرر علينا مقولة بشر بن الحارث الحافي: (يا أصحاب الحديث، أدوا زكاة الحديث، قالوا: و ما زكاته؟ قال: أن تعملوا من كل مئتي حديث بخمسة أحاديث).
قلت: و هذا الأثر أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/ 337)، و الرافعي في التدوين (2/ 427) – و اللفظ له – و البيهقي في الشعب (1805) و هو صحيح عنه.
و قد حفظ الله له ذلك فاستمر عليها إلى آخر أيام عمره رحمه الله.
و معروف لدى المقربين من الشيخ: أنه رحمه الله كان مبرزا في الحفظ، فهو حافظ من الحفاظ، لا يكاد يسوق الحديث إلا و يأتي به بلفظه كاملا.كما إن الدهشة تصيبك مما تراه من سرعة استخراجه للحديث من الكتب الحديثية؟.
فإني – بفضل الله - كنت أجالس الشيخ طويلا في مكتبته العامرة، فيدخل عليه صنوف الناس يسألونه عن صحة أحاديث من ضعفها، فكان الشيخ موسوعةً في استحضار الأحاديث و حسن استخراجها من مظانها ... يمدُّ يده إلى الكتاب، فيخرج منه الحديث المسؤول عنه بسرعة عجيبة – رحمه الله -.
هكذا حصَّل العلوم على طريقة السلف الماضين في ثني الركب بين يدي العلماء، و الجِدِّ في تحصيل العلوم بسهر الليالي و حفظ الأوقات.
و قد حصل منهم الأدب قبل العلم، حتى صار إماما في التواضع و حسن الخلق – شهد له بذلك الموافق و المخالف -.
فهو رحمه الله جواد كريم، يحب العطاء، لم أر مثله في هذا -و إن كان له نظائر – بحمد الله -، لا يرد أحدا من المحتاجين، كم و كم رأيناه يعطي طلبة العلم و ينفق عليهم، و بالأخص الغرباء منهم بل و ممن لا يعرفهم بعلم و لا حاجة، والقصص في هذا كثيرة جدا.
فهو كريمٌ يكرم جلساءه بما عنده من طيِّب الكلام قبل طيب الطعام، يظن الجالس عنده أنه سيد الجلسة، و أنه الأقرب إلى قلب الشيخ و نظره، هكذا يحس الجالسون بين يديه.
¥