متواضع غاية التواضع، لا يجد الكبر إلى قلبه سبيلا، يأخذ بأيدي تلاميذه في ذهابه و إيابه، يناقش العلم معهم بلا تعال و لا رفع صوت.
محبٌّ للعلماء، لا يذكرهم إلا بخير، لا سيما من كان معظما للسنة، ساع في الخير، لا يخلو بيته في أي يوم من متنازعين، يأتون إليهم فيصلح بينهم.
كان أمارا بالمعروف، نهاءا عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم.
و كان صابرا محتسبا على ما يلاقيه من أذى، فلم يخرج من بلاد الشام و لم يهاجر منها كما هاجر غيره، بل بقي يدعو و ينصح و يعلم.
و الله ثم و الله ثم والله، لو كتبت ما كتبت عن شيخنا رحمه الله لما وفَّت كتابتي ببعض خلاله، فهو أعظم من أن يصفه قلمي - هكذا أحسبه و لا أزكيه على ربي- و هكذا حسبه غيري ممن رآه.
*********************
و بعد مرحلة التلقي و الأخذ عن العلماء = تفرَّغ الشيخ رحمه الله للدعوة و التعليم، فتقلد الخطابة و سنه عشرون سنة،ففي عام1369 هـ - 1948 خطب الشيخ بجامع الديوانية البرانية، و بقي فيه مدة 15عامًا، ثم انتقل إلى جامع عمر بن الخطاب الذي أنشأه،و هكذا من جامع إلى آخر حتى جاء الأمر بمنعه من الخطابة و التدريس عام 1994.
و شيخنا رحمه الله من أبلغ الخطباء و أقدرهم على الخطابة، يشدك بكلامه و أسلوبه في التعبير، فلا ترى الناس إلا محدقين تجاهه، مأخوذين بعباراته و إشاراته – وما أكثرها – رحمه الله –
عمل الشيخ مدرسا بين عامي 1952 و 1959 في مدرسة الإسعاف الخيري التي درس فيها، و قد أدرك فيها شيخه في التجويد: المقرئ صبحي العطار.
4 – و في سنة1381 - 1960 انتقل إلى المعهد العربي الإسلامي فدرس فيه القرآن و الفقه.
ثم انتقل إلى معهد الأمينية و منه إلى معهد المحدث الشيخ بدر الدين الحسني.
و في بداية هذه الفترة أعني الستينات عمل الشيخ مديرا لقسم التحقيق و التصحيح في المكتب الإسلامي لصاحبه الشيخ زهير الشاويش حفظه الله، و استمر على هذا إلى سنة 1389 - 1968 تقريبًا.
و شرح و درس في مساجد دمشق مجموعة كبيرة من الكتب منها: كتب التوحيد و العقيدة، شرح ثلاثيات الإمام أحمد
و الباعث الحثيث للعلامة أحمد شاكر و الإرشاد للنووي وقواعد التحديث للقاسمي و فتح المغيث للسخاوي و تدريب الراوي للسيوطي و زاد المعاد لابن القيم، و مختصر صحيح البخاري للزبيدي مع شرحه عون الباري لصديق خان و كفاية الأخيار للحصني في الفقه الشافعي و صحيح الأدب المفرد و مختصر تفسير الخازن للشيخ عبد الغني الدقر و غيرها من الكتب ..
ومنهجه في العلم و تحقيق المسائل أنه يأخذ بما دل عليه الدليل الصحيح، غير مقلِّد مذهبا من مذاهب الفقهاء التقليد الأعمى، فهو على هذا من فقهاء المحدثين.
وكان يقول رحمه الله: (العالم الحقيقي لا يتقيد بقول عالم واحد مهما كان شأنه بل يأخذ عن الجميع ما صح، و كان مؤيدا بالكتاب و السنة على نهج سلفنا الصالح).
و يضاف إلى عطائه في ميدان التدريس و التعليم =عطاؤه الكتابي الذي زخرت به المكتبة الإسلامية، فقد انكب رحمه الله على التحقيق و التأليف، فأخرج ما يزيد على الخمسين كتابا، في الفقه و الحديث و التفسير و الأدب و غيرها، و بعضها بالاشتراك مع الشيخ شعيب الأرنؤوط، منها: 1 - إتمام تحقيق كتاب غاية المنتهى في الفقه الحنبلي الذي بدأ تحقيقه شيخ الحنابلة وقتئذ جميل الشطي، حيث طُلب من الشيخ إتمام العمل على تحقيقه.
فكان العمل فيه باكورة تحقيقات الشيخ.و منها: زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي في 9 مجلدات.و المبدع في شرح المقنع لابن مفلح في 8 مجلدات.و روضة الطالبين للنووي في 12 مجلدا و الكافي لابن قدامة.و مختصر منهاج القاصدين،و رفع الملام عن الأئمة الأعلام لابن تيمية و جلاء الأفهام لابن القيم في مجلد، و زاد المعاد لابن القيم، و المسائل الماردينية لابن تيمية، و الأذكار للنووي – مجلد و مختصر شعب الإيمان للبيهقي – مجلد و الحكم الجديرة بالإذاعة لابن رجب و فتح المجيد شرح كتاب التوحيد – مجلد و لمعة الاعتقاد لابن قدامة.و التبيان في آداب حملة القرآن للنووي – مجلد و كتاب التوابين لابن قدامة – مجلد و وصايا الآباء للأبناء لأحمد شاكر – تعليق و الإذاعة لما كان و يكون بين يدي الساعة لصديق خان.و شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد للسفاريني
و قاعدة جليلة في التوسل و الوسيلة و الفرقان بين أولياء الرحمن و أولياء الشيطان و الكلم الطيب كلها لابن تيمية، و الوابل الصيب و الفروسية فتاوى رسول الله صلى الله عليه و سلم و عدة الصابرين، و هي جميعا لابن القيم و غير هذه كثير.
و قد أشرب شيخُنا حب شيخي الإسلام ابن تيمية و ابن القيم منذ أن وقع في يده كتاب الوابل الصيب لابن القيم، و زاده حرصا عليها ما حصل له من محاكمة بعض مشايخه له لمَّا علم بقراءته لكتاب الوابل، و تحذيره الشديد له من كتب الشيخين، فجعل الله تلك المحاكمة سببا لإقبال شيخنا على كتب الشيخين ابن تيمية و ابن القيم، فكانت كما قيل: (رب ضارة نافعة).
فهذه جوانب قليلة عن شيخنا رحمه الله، و هي فيض من فيض و قليل من كثير كثير،
و فجر الجمعة وافاه الأجل المحتوم، و صلي عليه بجامع زين العابدين بالميدان، في مسجد الشيخ كريّم راجح، و أم المصلين ابنه الأستاذ محمود الأرنؤوط، و دفن بمقبرة الحقلة.
فالله أسأل و بأسمائه الحسنى و صفاته العلى أتوسل: أن يرحم شيخنا عبد القادر و يكرم نزله مع النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا.
اللهم أجرنا في مصيبتنا و اخلف لنا خيرا منها، و ارزقنا و أهله و جميع محبيه الصبر على فقده
و إنا لله و إنا إليه راجعون.
و كتب تلميذه أبو تيمية إبراهيم بن شريف الميلي
¥