سبحان الله ماذا يصنع ستر الله بالعبد الضعيف، لقد أحسن أخي السوسني بأخيه الظن، فانتظر جواباً لا يوجد لحسن ظنه فحسب، وتالله لقد صدق القائل: وعين الرضا ... فماذا سيقول المسكين ابن هشام بعد هذا الذي تقدم، ولكن سأحتال للأمر فأعيد الكلام بطريقة أخرى، حتى لا أخيب ظن أخي الحبيب السنوسني فاقول:
إن الشاعر حين يتهيأ لكتابة القصيدة تنتابه حالة شعورية مناسبة للمقام، إن كان مدحاً أو نسيباً، وكلامي عن الشاعر المطبوع، فلا يزال بالقوافي يروزها ويردها، حتى يقع منها على قافية يراها أنسب لمعانيه ولا سيما المطالع، ثم لا يزال بالمعاني يلائمها مع القوافي حتى تستقيم له القصيدة، وهو في أثناء ذلك قد يستبدل بعض الكلمات، وينقحها، ويلقيها في أكثر من مناسبة فيختار في موقف لفظة وفي موقف أخرى. والشعر كما تعلم ليس وحياً منزلاً، بل كان الشعراء أنفسهم يتصرفون في أشعارهم بالتغيير والرواة يفعلون ذلك وهذا أمر قديم، والكلام فيه يطول ولعله يأتي له مناسبة غير هذه.
ورغبة في الفائدة فإن المشاعر التي تعرض للشاعر قبل قول القصيدة قد صورها بعض الشعراء قديماً وحديثاً، ومن الشعراء الذين صوروا هذه الخطوات العملية للبدء في القصيدة قول الشاعر الذائد الكندي وهو يصور حاله مع قوافي الشعر كيف تتوارد عليه وهو يردها ويذودها حتى يقع على أحسنها:
أَذود القَوافيَ عَني ذيادا = ذيادَ غلامٍ جَرىءٍ جَوادا
فَلَمّا كثرنَ وَعَنَّينَهُ = تَخَيرَّ مِنهُنَّ سِتا جِيادا
فَأَعزِلُ مَرجانَها جانِباً= وَآخذَ مِن دُرِّها المُستَجادا
فتأمل كيف يعزل مرجانها جانباً بحسب ذوقه، ويختار درها فقط، وقد يأتي أحد الرواة فيأخذ من هذا المرجان الذي عزله جانباً، ويضعه مكان درة من الدرر التي اختارها فتروى هكذا وهكذا. ولذلك تعددت الروايات في شواهد الشعر في النحو واللغة. وهذا أحد الأسباب لا السبب الوحيد.
هذه مسألة، ولتعذرني على تشتت جوابي فإنه يدل على تشتت ذهني!
من الشعراء الذين أشاروا إلى اختيار القوافي، والتفنن فيها الشاعر المبدع تميم بن أبيِّ بن مقبل الذي يقول مفتخراً بشعره وبصره باختيار القوافي:
إِذَا مِتُّ عَنْ ذِكْرِ القَوَافِي فَلَنْ تَرَى = لَهَا تَالِياً مِثْلَي أَطَبَّ وأَشْعَرَا
وأَكْثَرَ بَيْتاً مَارِداً ضُرِبَتْ لَهُ= حُزُونُ جِبَالِ الشِّعْرِ حَتَّى تَيَسَّرَا
أَغَرَّ غَرِيباً يَمْسَحُ النَّاسُ وَجْهَهُ = كَمَا تَمْسَحُ الأَيْدِي الأَغَرَّ المُشَهَّرَا
ألا ترى كيف يذكر بصره بطب القوافي، هل سمعت بطبيب متخصص في القوافي؟ وكيف أنه من أكثر الشعراء اختياراً للبيت الشعري المارد العصي المتأبي الذي ضرب من أجله مفاوز وحزون حتى تيسر، وأنه لجماله وروعته يتأمله الناس ويصنعون به كما يصنع المتأمل في الخيل الفارهة ويمسح الناس بأيديهم على وجهه وعرفه تعجباً من جماله وحسنه.
هذه أفكار متناثرة أردت أن أقطع بها صمتي لأعود مرة أخرى فأهذب الجواب، وآتي على السؤال بشيء من التفصيل. والله يحفظكم جميعاً ويرعاكم.
ـ[السوسني]ــــــــ[19 - 05 - 2005, 09:07 ص]ـ
ابن هشام
أحسنت الكلام، ولقد رأيت جوابك، لكنه ما شفى لي بعدُ غليلاً، إذ كيف يتصرف متصرِّفٌ في كلام غيره، ويغيِّر ويُبدِّل، وها نحن نقرأ أن سيبويه أخطأ في رواية هذا البيت؛ لأن قافية كذا، ولم يقبل النقاد هذا التغيير، مع أنه يمسُّ جوهر الاستشهاد
ومما انتقد على سيبويه في شواهده قول الشاعر:
معاوي إننا بشر فاسجح **** فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فنصب الحديدا، واعتُرض عليه بأن قافية الأبيات كلها مسكورة، فكيف لا يُقبل هذا، ويُقبل تغيير ما اختاره الشاعر، سواءًا أكان ضعيفًا أن كان قويًّا.
ولا زال في نفسي شيء من ذلك، فأنت إذا أردت أن تبين محاسن الشعر، وظهر لك انتقادٌ للفظة من كلام شاعر، فهل ترى لنفسك الحقَّ أن تغيرها على ما ظهر لك من النقد؟
ملاحظة:
لقد ذكرتَ يابن هشام أسماء شعراء، وقد خطر لي أثناء قراءتي لهم فكرة الاحتجاج اللغوي بالشعراء في جانب النحو والألفاظ، فطرأ علي أننا لو أتبعنا كل شاعر بزمنه أو بوفاته، أفلا ترى أنَّ في ذلك فائدة من هذا الجانب؟
ولك كل تحياتي.