هو الآخر، ولا نستبعد أن هذا الإنسان قد ربطته بالشاعر مشاعر عاطفية ما، فجاشت عواطفه، وراح يصفها ويأسى على الزمن الذي تحوّل إلى مجرد ذكرى، علّه زمن الشاعر، فجاءت المقدمة معبرة عن تلك المشاعر والأحاسيس ولم يعد مهمّاً -بعد ذلك- إن كان امرؤ القيس هو صاحب الريادة في هذه الظاهرة الشعرية، أو أنه ابن حذام، كما يصرح بذلك امرؤ القيس نفسه حين يقول:
عوجا على الطلل المحيل لعلنا * * * * * نبكي الديار كما بكى ابن حذام (4)
إن مسألة الوقوف عند رائد المقدمة الطللية، تعدّ أمراً عسير المنال من حيث تأكيد هذه الريادة، وحصرها في شاعر بعينه لأن عملية التدوين جاءت متأخرة جداً، حتى إن الاختلاف يبدو بيّناً على مستوى تحديد هذا الاسم الذي أشار إليه امرؤ القيس في البيت السابق، فمن قائل "ابن حذام" ومن قائل "ابن حزام" ومن قائل "ابن خدام".
وإذا كان من الصعوبة بمكان الجزم بإسناد ريادة إنشاء المقدمة الطللية لشاعر بعينه، فإن هناك قضية أكثر أهمية، وهي المتمثلة في الافتراض التالي: مادام هناك شاعر ما وضع هذه المقدمة أول مرة، فهل اطلع عليها غيره من الشعراء وقاسوا عليها وجعلوها سنّة حميدة، ونسجوا على منوالها لغاية في نفوسهم، أو لأنّها تستجيب لحاجات نفسية، أو أن هناك أسباباً أخرى؟ فعند قراءتنا لهذا الرأي مثلاً:
((من الشعراء الذين ذكروا الديار ووصفوها وصفاً حقيقياً لاتخيلاً أو تصوراً، ودون معاناة أو تكلف هم الشعراء الجاهليون لأنهم نقلوا لنا صورتها بأمانة، دفعهم إلى ذلك ماكان في هذه الديار من ذكريات كثيرة خلقتها حياة الصحراء حتى إن هذه الذكريات جعلتهم -لشدة شغفهم بها يخاطبون الطلل وكأنّه من الناطقين)) (5).
ثم يستشهد هذا الدارس على رأيه بقول امرئ القيس:
ألا انعم صباحاً أيها الطلل البالي * * * * * وهل ينعمن من كان في العصر الخالي؟ " (6)
فلابد -هنا- من إبداء بعض الملاحظات التي تزيل بعض اللبس فيما حمله هذا القول من آراء يبدو لنا فيها بعض الشطط والمبالغة، فنحن نتساءل، كيف صور هؤلاء الشعراء الديار تصويراً حقيقياً دون تصور أو تخيل، وكأنهم بذلك راحوا يصورون الديار تصويراً "فوتوغرافياً" "حرفياً"، وهذا يتنافى وطبيعة الشعر الذي هو رؤية إنسانية معقدة لاتخلو من خواطر إنسانية ذاتية، وخيالات على درجة ما، حتى وإن افترضنا -جدلاً- أن الشاعر عبر فعلاً عن تجربة واقعية، وأنه يصور معايشته لتلك التجربة من خلال أدوات فنية قد لا تتوافر لغيره من بقية الناس، وإلا عددنا جميع البشر شعراء.
وفضلاً عن ذلك، فإن الشعر معاناة، وهذا يعني أن الشاعر إن لم يتمكن من تعميق إحساسه، وابتكار الأساليب التعبيرية المناسبة أتى شعره سطحياً ضحلاً لا ماء فيه، والمقدمة الطللية حافلة بتلك التجارب التي جعلت أصحابها يقدمون تجارب متنوعة فيها خصوبة وابتكار، رغماً عن أحادية الموضوع وتشابه المواقف.
ثم إن البيئة الصحراوية، لم تتغير من حيث جغرافيتها وتضاريسها، ومن حيث مناخها، فكيف بنا نقصر هذه المقدمة على الجاهليين دون غيرهم فإذا عرفنا أن الخيام ظلت منصوبة في أعماق الصحراء إلى زمن بعيد بعد العصر الجاهلي، بل إن بعضها مازال منصوباً حتى يومنا هذا، فهل لنا الحق -بعد ذلك- أن نحرم ذلك البدوي من التعبير عن حلّه وترحاله، لكونه ليس جاهلياً؟ فالقضية -في رأينا- ترتد إلى أصالة التعبير وإلى صدق التجربة الفنية لدى الشاعر، وليست مرتبطة بالسبق الزمني، لأن الجاهلي نفسه قد ينظم شعراً يقلد به شعراً سبقه.
وعلى مافي الرأي السابق من بعض التعميم، فهو يجرد المقدمة الطللية من كثير من خصائصها الفنية، وخاصة أن هذه المقدمة تمثل مظهراً إبداعياً ووسيلة إلهامية تغني تجربة الشاعر وتحفزه على الابتكار: ((كانت هذه الأطلال تقوم بوظيفة الملهم، والمرشد والمبدع للشعراء الذين وقفوا عليها، والذين لم يقفوا عليها، حتى يستدروا مواهبهم الشعرية ويستثمروا إحساسهم الفني)) (7).
ثم إن هذه الأطلال -كانت- في الوقت نفسه: ((قناعاً فنياً يسقط الشاعر عليها جملة أحاسيسه، ويتخذها ستاراً لمواضيعه، كما تبدو لنا مقدمات النابغة الذبياني حين ينشئ قصائده، فيصف إطلاله بالوحشة حين موضوعها الاعتذار، فتخلو من أي أثر لحركة الحياة ونواميسها)) (8).
¥