تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ونستشف من الرأيين السابقين أن المقدمة الطللية جاءت لتمثل استجابة لحاجة الشاعر الإبداعية، ومدعاة لتفتيق موهبته الشعرية، ثم هي قناع فني توسل به الشاعر في الوصول إلى مايمكن قوله بعد تلك الأرضية التمهيدية التي لابد منها، إذ أن الشاعر الجاهلي جعل منها لازمة من لوازم قريحته الشعرية، وكأنه أصبح يربأ بنفسه أن يستهل حديثه بالفخر أو المدح أو الوصف دون التقيد بتلك السنة الفينة.

وأياً كان الأمر فإننا لانستطيع الحكم على هذه المقدمة، على أنها تقليد فني فحسب، أو هي محض استجابة نفسية، فقد تكون هذا وقد تكون ذاك، وقد تكون شيئاً آخر، ولكن هناك بعض الباحثين ممن يجتهد في إقناع القارئ بصدق تجربة الشاعر النفسية والمكانية، وربما تجربته الواقعية، حين يذهب إلى أن الشاعر الجاهلي سجل تجربته من خلال تلك الأمكنة التي أتى على ذكرها في مقدمته، بعد أن آلفها وعاشها، وتركت في نفسه تجربته تلك ماتركته من آثار حية، ومن صدى نفسي عميق، ويرى هؤلاء -أن الشعراء لم يقفوا عند مكان بعينه بيد أنهم يتفقون على سنة الطلل، وهذا يعني -من قريب أو بعيد- واقعية معاناتهم وصدق تجربتهم (9).

وقد لانختلف من حيث ذكر الأمكنة وتحديدها، ومن حيث كونها واقعية أو متخيلة، فهذا -في نظرنا- لايمثل جوهراً، ولكن المسألة تكمن -أصلاً- في سنّة الطلل نفسه، فالتجربة الواقعية، إن أخذناها بمعناها الحرفي، فهي تؤدي إلى الضحالة السطحية، ويبدو أن الشاعر الجاهلي مع أن مداركه الخيالية كانت محدودة، بحكم الزمان والمكان اللذين وجد خلالهما هذا الشاعر، فضلاً عن طبيعة المرجعيات الفكرية والحضارية التي كان قد اكتسبها، والتي كانت محدودة -هي الأخرى- إلا أنه -مع ذلك- قدم لنا صوراً شعرية موحية ومؤثرة، وهذا ليس لارتباطه بتصوير الواقع الحرفي المعيش، ولكن نتيجة اعتماده على إضفاء عنصر الخيال، وبصماته الفنية المتميزة التي أكسبت هذا الشعر رونقاً وجمالاً.

أما على صعيد الدلالات الفنية التي أسقطها الشاعر على تلك المسميات بغض النظر عن واقعيتها أو تخيلها -فهي على درجة من التأثير والإيحاء لا محالة.

((فكل بيئة كانت تمد الشاعر بروافد طللية تبعاً لمسميات أمكنتها التي أودعها خلاصة ذكرياته، فأثرت فيه حتى أسقط عليها نفسه ووجدانه، لأنه يريد أصحابها، لذلك أسرف في ذكرها لأنها متنفس عواطفه وأحلامه، كما كان لهذه الأمكنة في المقدمات الطللية دلالات فنية، هو من العلم بحيث كان الشاعر يقصدها قصداً فهي ليست سنّة طللية فحسب بل كانت سنّة فنية ونفسية)) (10).

ويذهب أحد الباحثين إلى حد الاعتقاد بأن المقدمة الطللية تقوم بعملية التطهير، حيث تساعد على تحمل المواقف الصعبة، فتتجدد طاقات نفسه، وتبعد ظلمات وحشتها. وتلطف من ذهولها كلما تعكر صفوها ومن هنا لم يأت بكاء الشاعر للبكاء، ولكنه أتى علّةً لشفاء نفسه الملتاعة، حين تبلغ هذه النفس درجة التأزم، فتارة تتلمس التماسك والتجلد، وأخرى تلجأ إلى الدموع والنداء والاستفهام، وكل ذلك قصد التخفيف من تلك المعاناة النفسية (11).

ولاشك أن مثل هذا الحكم يصح عندما يكون الشاعر في موقف معاناة حقيقية، إذ أنه حين يذرف الدموع على ذكريات الحبيبة في خضم ماضيه الجميل مستعملاً تلك التعابير الاستفهامية التي لاتخلو من الإمدادات النفسية التي تشخصها نداءاته وآهاته، فمثل هذه التوسلات تخفف من أزمته النفسية، وتطهر نفسه من أدران تلك اللواعج والمآسي، ولكننا لانرى أن كل هؤلاء الشعراء سواء في تلك المعاناة.

كما أن البعد الطللي -في الشعر الجاهلي عامةً- غني بالمعاني الرمزية من الوجهة النفسية خاصةً، فقد اعتمد الشعراء في صياغتهم الفنية على الطاقات التي تفتقها خبايا النفس وتجارب الذات الشاعرة، وهكذا تلونت هذه المقدمات بتلونات النفس الإنسانية في تعاملها مع ملابسات الحياة، ثم أسقطت كلها على الأطلال، ومن هنا كانت رمزية الطلل تختزن هذه المعالم النفسية وتعمق من تجربتها، فكان الشاعر حين يشير إلى مخلفات الأطلال من "نؤي وأثافيّ، وبعر الآرام وعرصات الدار، يشير -في الواقع- إلى كل ماظل خامداً في نفسه أو في شعوره الباطني ((لذلك لم تعف هذه المعالم من الذكرى، كما عفت هذه الآثار مهما غامر الزمن واستحدثت المعطيات في حياتنا لأن النفس لاتفنى، وأن عواطفها وتجربتها هي التي خلدت هذه

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير