الأشياء المقدسة والكائنة في نفوسنا)) (12).
أما يحيى الجبوري فيرى أن المقدمة الطللية تمثل جزءاً من حياة الجاهلي فهو عند وقوفه يستحضر ذكرياته، هذه الذكريات التي تثير في نفسه مكامن الأسى والشجن والحنين، فيندفع مناجياً ديار الحبيبة، مخاطباً آثارها، ومن ثم فهو يصور أحاسيس صادقة وعواطف جياشة، لاسيما أن الديار تمثل الوطن المهجور ومايحويه هذا الوطن من أحبّة وصحب وأهل (13).
وإذا لم نختلف جوهرياً مع هذا الرأي، ومايماثله من آراء نقدية أخرى تصب في هذا المعنى أو ذاك مما يذهب إلى أن الطلل يمثل حيزاً واسعاً من حياة الجاهلي الذي اعتاد حياة الحلّ والترحال، حتى إنه حين يقف عند الطلل لايعبر عن أساه وحزنه لفراق الحبيبة بل يمكن أن يتجاوز ذلك الحنين إلى الوطن المصغر بكل مايثيره في نفسه من لهو وفرح، وعذاب وضنى في الزمن الغابر.
فالتساؤل الذي يمكن طرحه بهذا الصدد، هل بالضرورة أن جميع الشعراء الذين تغنوا بالأطلال عاشوا التجربة أو عايشوها؟ وهل بالضرورة رحلت عنهم حبيباتهم فوقفوا واستوقفوا في زمن بعينه وأماكن محددة، وبكوا واستبكوا؟ أو أن تلك سنة فنية -كما أسلفنا- رسمت من قبل شاعر ما، فوجدت صدى نفسياً مقبولاً ومؤثراً لدى لفيف من الشعراء الذين تأثروا بهذا المطلع، وأتوا بما أتى به هذا الشاعر الأول الذي لانشك في صدق تجربته ولوعة مأساته العاطفية، لتصبح تقليداً فنياً متبعاً يسير على منواله الجميع على أنه يمثل النموذج أو المثال المحتذى، ولعل ماجعلنا نميل إلى هذا الطرح أن المقدمات الطللية -في جملتها- لاتخلو من المواصفات التالية:
إنها تعطينا -على اختلافها- نصاً شعرياً مكروراً، فعلى مافي هذا النص من خصائص شعرية متميزة بعض التميز، تدل على فردية كل شاعر، وعلى شخصيته الشعرية إلا أن هذا الموضوع العام، أو السياق العام الذي تدور حوله معاني المقدمة وتراكيبها يكاد يكون نفسه في أغلب الأحيان، ناهيك عن بعض المقدمات التي تأتي بعض أبياتها متضمنة في أبيات أخرى من مقدمة أخرى، ثم إن هناك ذكراً مكرراً لآثار الدار وبقاياها ولوازمها تتكرر بأساليب متشابهة مثل: ((ذكر الطلل، والبكاء عليه والوشم، والنؤي، وبعر الآرام، والأثافي وذكر الأماكن أو المواضع التي كانت منبع هذه الذكريات)).
ويبدو أن التساؤل الذي يحمل مشروعية طرحه في هذا المجال هو -ببساطة- مادامت هذه المقدمات الطللية استجابة نفسية لحاجات الشعراء النفسية والفنية، لِمَ لم تأت متنوعة بتنوع الأسلوب والتجربة؟ ولِمَ لمْ نقرأ اختلافاً في المنهج والرؤيا لدى هؤلاء الشعراء الذين التزموا بنمط واحد في البنيتين التركيبية والمعنوية؟ بل لِمَ لم يتنوع الموضوع -في حد ذاته- وفي طريقة تعامله مع المرأة ولوازمها -بصفتها جوهر الموضوع؟ وبذلك تكتسب هذه الظاهرة الشعرية خصوبة وتنوعاً واستجابة حقيقية لتطور الشعر عبر التطور الزمني، وتطور الأخيلة، وبذلك نستطيع أن نضع أيدينا على إبداع شعري متميز.
وبطبيعة الحال، فإن ماذكرناه لايعني أن تلك المطالع قد خلت من الجوانب الجمالية، والأحاسيس الإنسانية التي تدل على رقة شعور الشاعر الجاهلين وصدق تجربته: ((أما المطالع الغزلية ففيها إحساس دقيق بالجمال، وتذوق لمحاسن المرأة والقارئ لمشاهد الارتحال والفراق، يشعر بهزة من شوق ورهبة وحنين لهذا الفراق، وحين تذكر المرأة، وتوصف محاسنها، نجد في هذا الشعر إقبالاً على الحياة وامتزاجاً بها وتعلقاً بمباهجها)) (14).
بيد أن المشكلة التي ظلت عالقة في ثنايا الشعر الجاهلي عامة، أن هذا الشعر على دقته في تصوير الجوانب الحسية للمرأة، وإقباله المفرط على تصوير رغبته فيها، تلك الرغبة التي تقف -تقريباً- عند الجانب المادي دون الإطلالة على جوانبها الأخرى من نفسية وروحية وجمالية توحي بجوهرها الإنساني البعيد عن الجوانب الحسية.
فقد صور الشعر الجاهلي المرأة على أنها متاع للرجل، وأنها فتنة -قد تزول حين يقضي وطره منها، في حين أهمل جوانبها الأخرى، على الرغم من إحساسنا حين نقرأ هذا الشعر أنه يعترف ضمناً أن المرأة ليست جسداً للمتعة فحسب، بل هي أشياء أخرى أيضاً.
ـ[علاء عبد الجواد]ــــــــ[24 - 12 - 2005, 06:16 م]ـ
السلام عليكم ممكن اسماء المصادر حسب الارقام التي وردت في المتن وشكرا