نحن نعلم أن كندة ارتدت بعد موت النبى، وأن عامل ابى بكر حاصرها فى النُجير وأنزلها على حكمه وقتل منها خلقا كثيرا وأوفد ملها طائفة إلى أبى بكر فيها الأشعث بن قيس الذى تاب وأناب وأصهر إلى أبى بكر فتروج أخته أم فروة؟
وخرج - فيما يزعم الرواة - إلى سوق الإبل فى المدينة فاستل سيفه ومضى فى إبل السوق عقرا ونحرا حتى ظن الناس به الجنون، ولكنه دعا أهل المدينة إلى الطعام وأدى إلى أصحاب الإبل أموالهم؟
وكانت هذه المجزرة الفاحشة وليمة عرسه.
ونحن نعلم أن الرجل قد اشترك فى فتح الشام وشهد مواقع المسلمين فى حرب الفرس، وحسن بلاؤه فى هذا كله، وتولى عملا لعثمان، وظاهر عليا على معاوية، وأكره عليا على قبول التحكيم في صفين.
ونحن نعلم أن ابنه محمد بن الأشعث كان سيدا من سادات الكوفة، عليه وحده اعتمد زياد حين أعياه أخذ حجر بن عدى الكندي.
ونحن نعلم أن قصة حجر بن عدى هذا وقتل معاوية إياه فى نفر من أصحابه قد تركت فى نفوس المسلمين عامة واليمنيين خاصة أثرا قويا عميقا مثل هذا الرجل فى صوره الشهيد.
ثم نحن نعلم أن حفيد الأشعث بن قيس وهو عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث قد ثار بالحجاج، وخلع عبد الملك، وعرض دولة آل مروان للزوال، وكان سببا فى إراقة دماء المسلمين من أهل العراق والشام، وكان اللذين قتلوا فى حروبه يحصون فيبلغون عشرات الآلاف، ثم انهزم فلجأ إلى ملك الترك، ثم أعاد الكرة فتنقل فى مدن فارس، ثم استيأس فعاد إلى ملك الترك، ثم غدر به هذا الملك فأسلمه إلى عامل الحجاج، ثم قتل نفسه فى طريقه إلى العراق، ثم احتلت رأسه وطوف به فى العراق والشام ومصر.
أفتظن أن أسرة كهذه الأسرة الكندية تنزل هذه المنزلة فى الحياة الإسلامية وتؤثر هذه الآثار فى تاريخ المسلمين لا تصطنع القصص ولا تأجر القصاص لينشروا لها الدعوة ويذيعوا عنها كل ما من شأنه أن يرفع ذكرها ويبعد صوتها؟
بلى! ويحدثنا الرواة أنفسهم أن عبدالرحمن بن الأشعث اتخذ القصاص وأجرهم كما اتخذ الشعراء وأجزل صلتهم: كان له قاص يقال له عمرو بن ذر؟
وكان شاعره أعشى همذان.
فما يروى من أخبار كندة فى الجاهلية متأثر من غير شك بعمل هؤلاء القصاص الذين كانوا يعملون لآل الأشعث.
وقصه امرئ القيس بنوع خاص تشبه من وجوه كثيرة حياة عبدالرحمن ابن الأشعث.
فهي مثل لنا امرأ القيس مطالبا بثأر أبيه.
وهل ثار عبد الرحمن عند الذين يفقهون التاريخ إلا منتقما لحجر بن عدى؟
وهى تمثل لنا امرأ القيس طامعا فى الملك.
وقد كان عبدالرحمن بن الأشعث يرى أنه ليس أقل من بنى أميه استئهالا للملك؛ وكان يطالب به.
وهى تمثل لنا أمرا القيس متنقلا فى قبائل العرب.
وقد كان عبد الرحمن بن الأشعث متنقلا فى مدن فارس والعراق.
وهى تمثل امرأ القيس لاجئا إلى قيصر مستعينا به.
وقد كان عبد الرحمن بن الأشعث لاجئا إلى ملك الترك مستعينا به.
وهى تمثل لنا أخيرا امرأ القيس وقد غدر به قيصر بعد أن كاد له أسدى فى القصر.
وقد غدر ملك الترك بعبد الرحمن بعد أن كاد له رسل الحجاج.
وهى تمثل لنا بعد هذا وذاك امرأ القيس وقد مات فى طريقه عائدا من بلاد الروم.
وقد مات عبد الرحمن فى طريقه عائدا من بلاد الترك.
أليس من اليسير أن نفترض بل إن نرجح أن حياة امرئ القيس كما يتحدث بها الرواة ليست إلا لونا من التمثيل لحياه عبدالرحمن استحدثه القصاص إرضاء لهوى الشعوب اليمنية فى العراق واستعاروا له اسم الملك الضليل اتقاء لعمال بنى أمية من ناحية، واستغلالا لطائفة يسيرة من الأخبار كانت تعرف عن هذا الملك الضليل من ناحية أخرى؟ ستقول: وشعر امرئ القيس ما شأنه؟
وما تأويله؟
شأنه يسير، وتأويله أيسر.
فأقل نظر فى هذا الشعر يلزمك أن تقسمه إلى قسمين: أحدهما يتصل بهذه القصة التى قدمنا الإشارة إليها.
وإذا فشأنه شأن هذه القصة انتحل لتفسيرها أو تسجيلها، وانتحل لتمثيل هذا التنافس القوى الذى كان قائما بين قبائل العرب وأحيائهم فى الكوفة والبصرة.
واقل درس لهذا الشعر يقنعك، إن كنت من الذين يألفون البحث الحديث، بأن هذا الشعر الذى يضاف إلى امرئ القيس ويتصل بقصته إنما هو شعر إسلامي لا جاهلي، قيل وانتحل لهذه الأسباب التى أشرنا إليها ولأسباب أخرى فصلناها فى القسم الثاني من هذا الكتاب.
فهذا أحد القسمين.
¥