ورأيي أنا أن علم المنطق كعلم البلاغة لا فائدة في كليهما لمن لا يستطيع أن يكون منطقيا وبليغا بدرسه وبحثه. وإني أذكر لكم خبرا عن نفسي فقد كنت أول الطلب منذ 17 سنة قصدت مصر واجتمعت هناك بطائفة من أهل الفكر وكان منهم عبد العزيز الثعالبي وهو رجل تونسي مؤرخ سياسي كان يدرس في أوروبا بعض فروع المشرقيات، ومن أمره أنه لا يتكلم إلا الفصحى فساجلته الحديث بلغته وطريقته المنطقية – ولم أكن قرأت في المنطق شيئا غير فصل واحد من كتاب أزهري يبتدئ به المجاورون وقد أنسيت اسمه – فقال لي أخيرا على من درست المنطق؟ قلت له: ومن الذي وضع هذا العلم؟ قال: أرسطو. قلت: ولم لا تكون قريحتي في ذلك كقريحة أرسطو ...
أسوق لكم هذه العبارة لتعلموا أن الفن نفسه غير ضروري على ما هو في كتبه فإن زمن المصطلحات المنطقية قد مضى، وكانت هذه المصطلحات لازمة للجدل ولا جدل اليوم .. ويمكنكم أن تبدأوا القراءة في الكتب المقررة لطلبة الأزهر وهي شروح وحواش كلها مفيد ...
30
وإني أعجب لسخافة كلمته [يعني المنفلوطي] في الشيخ جاويش وفريد وجدي وهما عالمان من كبار أهل الفضل وأصحاب الأثر في هذه النهضة ومن ذوي الأخلاق الراقية ولو رأيتم الشيخ عبد العزيز لرأيتم الأدب والرقة والذكاء والأنفة والتواضع في رجل واحد وهو بعد عالم مدقق يحمل شهادة علم النفس وفن التصوير من جامعة كمبردج وشهادة دار العلوم في حين أن الذي كتب عنه إنما يحمل شهادة التقرب من سعد باشا زغلول وبهذه الكلمة أراد أن يرضيه ويرضي أخاه المرحوم فتحي باشا وفي هذا كفاية.
[كلمة المنفلوطي فيهما: (لولا مقامه في الهجاء ووجوده في اللواء لكان هو وفريد وجدي سواء)]
31
وأما البارودي فقد كان نابغة دهره الذي نشأ فيه، ولم يكن في عصره أي من أربعين سنة أحد يساويه ... على أنك تجد نحو 200 بيت من أحسن شعر البارودي في الجزء الثاني من كتاب الوسيلة الأدبية للمرصفي وهو كتاب قديم طبع من أربعين سنة وكان المرصفي أستاذ الرجل.
... وبالجملة فإن الرجل شاعر فحل مجود، وإن كان ضيق الفكر ضعيف الحيلة في إبراز المعاني واختراعها.
33
وأما شعر الجاهلية وسذاجته فلم أقرأ ما كتبه المنفلوطي في ذلك ولكن شعر الجاهلية كشعر غيرهم إنما يصف أحوال الحياة التي شهدوها فيقع فيه ما يقع في سواه من القوة والضعف ويكون فيه الجيد والسخيف.
على أن شعر فحول الجاهلية لا يتعلق به شيء من شعر غيرهم في صناعة البيان لا في صناعة الشعر إذ هم أهل اللغة وواضعوها.
34
على أني أحب لك أن لا تحفل كثيرا بأقوال المتأخرين وكتابتهم ومحاوراتهم فيما يختص بالأدب العربي وتاريخه لأنهم جميعا ضعاف لم يدرسوه ولم يفكروا فيه، فابحث أنت وفكر واجتهد لنفسك فهذه هي السبيل.
37
وأما بيت البارودي فهو كما ذكرتم وقد أخطأ الشارح في ضبطه وشرحه كما أخطأ في كثير ولقد ابتلي البارودي رحمه الله في حياته بنكبات عدة وابتلي بعد موته بهذا الشارح الذي أفسد عليه ديوانه وصرف رغبات الناس عنه بهذا الخلط الذي جمعه وسماه شرحا.
وحماسة البحتري كتاب طبعه اليسوعيون في بيروت وهو في حجم جزء من ديوان البارودي واختار فيه البحتري أشعارا كثيرة على نحو ما فعل أبو تمام في حماسته .. ولم يبق بعد مختارات البارودي حاجة إلى هذا الكتاب إلا لمن يريد غرضا خاصا أما من أراد الشعر ففي المختارات ما يكفي.
39
ولقد كنت أنا السبب في أن زيدان ألف كتابه (تاريخ آداب اللغة العربية) ولذلك تاريخ لا محل له الآن.
أما أمين بك الرافعي فهو رجل حر الضمير كبير النفس .. ولو رأيت أخاه عبد الرحمن بك لرأيت عجيبا في الأخلاق والفضائل.
40
الإنشاء لا تكون القوة فيه إلا عن تعب طويل في الدرس وممارسة الكتابة والتقلب في مناحيها والبصر بأوضاع اللغة وهذا عمل كان المرحوم الشيخ عبده يقدر أنه لا يتم للإنسان في أقل من عشرين سنة. فالكاتب لا يبلغ أن يكون كاتبا حتى يقطع هذا العمر في الدرس وطلب الكتابة.
¥