تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وسعتُ كتابَ اللهِ لفظاً وغايةً وما ضِقتُ عن آيٍ به وعِظاتِ

فكيفَ أَضيقُ اليومَ عن وَصفِ آلةٍ وتَنسيقِ أسماءٍ لمختَرَعاتِ

- ولم يسجل التاريخ قط أن أمة حققت التنمية والتقدم الحضاري بلغة غيرها من الأمم، ولنا في التجربة العربية الإسلامية القديمة واليابانية الحديثة خير دليل على ذلك. فالعرب المسلمون ما بنوا حضارتهم إلا بعد أن نقلوا ما خلفته الحضارات البائدة من علوم إلى العربية، ففهموا تلك العلوم بفكرهم وتمثلوها بلغتهم ووعوها بواعيتهم ليؤسسوا عليها صرح خير حضارة أخرجت للناس. واليابانيون اليوم كذلك فعلوا فهم يتلقّون علومهم باليابانية وما يكاد كتاب علمي يخرج في الغرب إلا ويترجم إلى اليابانية قبل أن يبلغ انتشاره في لغته مداه.

- و لنورد مثالا واقعيا على ذلك فسورية تتميز بعدة قضايا, تهمّ اللغة العربية. فهي البلد العربي الوحيد الذي يعلّم العلوم الغربية في جامعاته بالعربية, منذ سنة1920, ولم يحدث فيه أي خلل, أو ضعف. كما أن علماءها يشتركون, في المؤتمرات العالمية, في الوطن العربي وخارجه.

- و نقول إن الذي ينتج من غلبة لغة على لغة وحلولها محلها أن تذوب شخصية الأمة صاحبة اللغة المغلوبة تدريجياً في الأمة الغالبة، وتصبح بعد أن كانت لها مقوماتها وخصائصها وهي على لغتها الأصلية، تصبح مندمجة في أمة أخرى، وقد فقدت ما كانت تحمله في ذاكرتها من الأفكار والمعتقدات وسائر المعاني المختلفة عما كانت تراها وتفهمها، وتراها بعد ذلك بمنظار فكر اللغة الأخرى الذي لابد أن يغاير فكر اللغة الأولى في كثير من المعاني والتصورات.

ويأتي بعد هذه النتيجة أيضاً أن تُقطع الأمة التي استبدلت لغتها عن تراثها وأصلها، فتنشأ أجيال هذه الأمة المقطوعة فاقدة الهوية، لا تراث ولا انتماء، وهذا مما ييسر احتواء هذه الأجيال وإذلالها والتحكم في توجيهها.

إن الجيوش العسكرية التي تتخذها الأمم لنشر سيطرتها وبسط سلطانها تسبقها جيوش لغوية، تحمل هذه الجيوش لغة الأمة الغازية وتبشر بأفكارها وتذيع مبادئها وترسم شخصيتها، ولقد كانت هذه الجيوش اللغوية عظيمة الأثر في بث فكرها والدعوة إليه بين القوم الذين وفدت إليهم، فقبل أن تجيء الجيوش العسكرية استطاعت جيوش اللغة الأجنبية أن تهيء لها أتباعاً وأنصاراً يحملون فكرها ويدافعون عنه ويدعون إليه فوق فخرهم بهذه اللغة وميلهم إلى أهلها.

ثم إن الحديث بلغة قوم يفضي إلى الميل إليهم والتعايش معهم -إن لم يكن هناك حصانة فكرية لمن يتحدث بها- ويقوى هذا الميل عندما تكون هذه اللغة لأمة أرقى وأقوى من لغة من يعيش معهم من أهل لغته. إن أصدق ما أدلل به على هذا الأمر ما كان من أمر الاستعمار الأوربي الحديث لكثير من أجزاء العالم وبخاصة العالم العربي، والذي سبق إليه بغزو جيوشه اللغوية في القرن السابع عشر والثامن عشر الميلاديين

-و من الحقائق الثابتة في علم الاجتماع أن المغلوب مولع بتقليد الغالب كما أشار إلى ذلك ابن خلدون في المقدمة حيث قال:" المغلوب مولع أبدا بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال فيمن غلبها.

ولذا فقد أدرك السلف الناصحون ذلك، فحذروا من التحدث بغير العربية لمن يحسن العربية، لما في ذلك من استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله:" وما زال السلف يكرهون تغييرَ شعائرِ العربِ حتى في المعاملات وهو التكلّم بغير العربية إلاّ لحاجة، كما نصّ على ذلك مالك والشافعي وأحمد، بل قال مالك: (مَنْ تكلّم في مسجدنا بغير العربية أُخرِجَ منه) مع أنّ سائر الألسن يجوز النطق بها لأصحابها، ولكن سوغوها للحاجة، وكرهوها لغير الحاجة، ولحفظ شعائر الإسلام ". ونقل شيخ الإسلام عن الإمام أحمد كراهة الرَطانةِ، وتسميةِ الشهورِ بالأسماءِ الأعجميّةِ، والوجهُ عند الإمام أحمد في ذلك كراهةُ أن يتعوّد الرجل النطقَ بغير العربية.

و من أسباب منع التحدث بغير العربية الحذر من نطق كلام لا يعرف معناه وقد يكون شركا او سبا لله و للدين و ايضا فان اعتياد ذلك من التشبه بالاعاجم و قد نهينا عن التشبه بهم

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير