فقام رجل من بنى مازن بن فزارة فقال: يا قوم، إن قيساً كان كارهاً لأول هذا الرهان وقد أحسن في آخره، وإن الظلم لا ينتهي إلا إلى شر، فأعطوه جزوراً من نعمكم، فأبوا، فقام إلى جزور من إبله، فعقلها ليعطيها قيساً ويرضيه، فقام ابنه فقال: إنك لكثير الخطأ، أتريد أن تخالف قومك، وتلحق بهم خزية بما ليس عليهم، وأطلق الغلاء عقالها، فلحقت بالنعم. فلما رأى ذلك قيس بن زهير احتمل عنهم ومن معه من بنى عبس.
ثم إن حذيفة لج في ظلمه، وأرسل إلى قيس ابنه ندبة يطالبه بالسبق، فلم يصادفه، فقالت له امرأته: ما أحب أنك صادفت قيساً. فرجع إلى أبيه فأخبره بما قالت. فقال: والله لتعودن إليه. ورجع قيس فأخبرته امرأته الخبر، فأخذت قيس زفرات. ولم ينشب ندبة أن رجع إلى قيس، فقال: يقول أبي: أعطني سبقي، فتناول قيس الرمح فطعنه فدق صلبه، وعادت فرسه إلى أبيه عاثرة، ونادى قيس: يا بنى عبس، الرحيل! فرحلوا كلهم.
ولما أتت الفرس حذيفة علم أن ولده قتل، فصاح في الناس، وركب فيمن معه، وأتى منازل بنى عبس فرآها خالية، ورأى ابنه قتيلاً، فنزل إليه، وقبله بين عينيه ودفنوه. واجتمع الناس، فاحتملوا دية ندبة مائة عشراء، فقبضها حذيفة وسكن الناس.
وكان مالك بن زهير أخو قيس متزوجاً في فزارة وهو نازل فيهم، فأرسل إليه قيس: إني قد قتلت ندبة بن حذيفة ورحلت، فالحق بنا وإلا قتلت، فلم يجبه وقال: إنما ذنب قيس عليه.
ثم إن قيساً أرسل إلى الربيع بن زياد يطلب منه العود وإليه والمقام معه، إذ هم عشيرة وأهل، فلم يجبه ولم يمنعه، وظل مفكراً في ذلك.
وعاد حذيفة بن بدر فدس لمالك بن زهير فرساناً على أفراس من مسان خيله وقال: لا تنتظروا مالكاً إن وجدتموه أن تقتلوه، فانطلق القوم وقتلوه.
ولما بلغ عبساً مقتل مالك بن زهير جزعت عليه، وأتت بنو جذيمة حذيفة فقال بنو مالك بن زهير لمالك بن حذيفة: ردوا علينا ما لنا. فأشار سنان بن أبي حارثة على حذيفة ألا يرد أولادها معها، وأن يرد المائة بأعيانها، فقال حذيفة: أرد الإبل بأعيانها ولا أرد النسل، فأبوا أن يقبلوا ذلك.
وعلم الربيع بن زياد بمقتل مالك بن زهير، فجزع عليه، وأرسل إلى قيس عيناً بأتيه بالخبر، فرجع العين إلى الربيع فأخبره بما قال قيس، فبكى الربيع على مالك.
ولما علم قيس بجزع الربيع ركب هو وأهله، وقصدوا الربيع بن زياد، وهو يصلح سلاحه، فنزل إليه قيس، وقام الربيع فاعتنقا وبكيا، وأظهرا الجزع لمصاب مالك، ولقي القوم بعضهم بعضاً فنزلوا، فقال قيس للربيع: إنه لم يهرب منك من لجأ إليك، ولم يستغن عنك من استعان بك، وقد كان لك شر يومي، فليكن لي خير يوميك، وإنما أنا بقومي وقومي بي، وقد أصاب القوم مالكاً، ولست أهم بسوء، لأني إن حاربت بنى بدر نصرتهم بنو ذيبان، وإن حاربتني خذلتني بنو عبس، إلا أن تجمعهم عليّ، وأنا والقوم في الدماء سواء، قتلت ابنهم وقتلوا أخي، فإن نصرتني طمعت فيهم، وإن خذلتني طمعوا فيّ.
فقال الربيع: يا قيس، إنه لا ينفعني أن أرى لك من الفضل مالا أراه لي، ولا ينفعك أن ترى لي مالا أراه لك، وأنت ظالم ومظلوم، ظلموك في جوادك، وظلمتهم في دمائهم، وقتلوا أخاك بابنهم، فإن يبؤ الدم بالدم، فعسى أن تلقح الحرب.
وبعث قيس إلى أهله وأصحابه، فجاءوا ونزلوا مع الربيع، وبلغ حذيفة أن الربيع وقيسًا اتفقا، فشق ذلك عليه واستعد للبلاء.
ثم تلاقت جموع بنى ذيبان وعبس واقتتلوا قتالا شديداً، وكانت الشوكة في ذيبان، وقتل منهم عوف بن بدر، وقتل عنترة ضمضم أبو الحصين المري، والحارث بن بدر، وأسر الربيع حذيفة بن بدر، وكان حر بن الحارث العبسى قد نذر إن قدر على حذيفة أن يضربه بالسيف، وله سيف قاطع يسمى الأصرم، فأراد ضربه بالسيف لما أسر وفاء بنذره، فنهوه عن قتله، وحذروه عاقبة ذلك، فأبى إلا ضربه، فوضعوا عليه الرجال، فضربه فلم يصنع السيف شيئاً، وبقى حذيفة أسيراً.
فاجتمعت غطفان وسعوا في الصلح، واصطلحوا على أن يهدروا دم بدر بن حذيفة بدم مالك بن زهير، ويعقلوا عوف بن بدر [أي يؤدوا ديته]، ويعطوا حذيفة عن ضربته التي ضربه حر مائتين من الإبل، وأن يجعلوها عشاراً كلها وأربعة أعبد، وأهدر حذيفة دماء من قُتِل من قومه ذيبان في الوقعة، وأطلق من الأسر.
¥