فلما رجع إلى قومه ندم على ذلك، فساءت مقالته في بنى عبس، وركب قيس بن زهير وعمارة بن زياد فمضيا إلى حذيفة وتحدثا معه، فأجابهما إلى الاتفاق، وأن يرد عليهما الإبل التي أخذ منهما – وكانت توالدت عنده – وبينما هم في ذلك إذ جاءهم سنان بن أبي حارثة المري، فقبح رأي حذيفة في الصلح، وقال: إن كنت لا بد فاعلاً فأعطهم إبلا عجافاً مكان إبلهم، واحبس أولادها، فوافق ذلك رأى حذيفة، وأبى قيس وعمارة ذلك.
ثم إن مالك بن بدر- أخو حذيفة - خرج يطلب إبلاً له، فرماه جندب أحد بنى رواحة بسهم فقتله، ومن ثم أخذ الشر يعظم بين عبس – ويرأسهم الربيع بن ذبيان - وذيبان – ويرأسهم حذيفة بن بدر-، وهزمت بنوعبس واتبعتهم بنو ذيبان.
فأشار قيس على الربيع بن زياد أن يماكرهم، وخاف إن قاتلوهم ألا يقوموا لهم، وقال: إنهم ليسوا في كل حين يجتمعون، وحذيفة لا يستنفر أحداً لاقتداره وغلوه، ولكن نعطيهم رهائن من أبنائنا فندفع حدهم عنا، فإنهم لن يقتلوا الولدان ولن يصلوا إلى ذلك منهم مع الذين نضعهم على أيديهم، وإن هم قتلوا الصبيان فهو أهون من قتل الآباء، وكان رأي الربيع مناجزتهم فقال: يا قيس، أملأ جمعهم صدرك؟
وقال قيس: يا بنى ذيبان، خذوا منا رهائن إلى أن تنظروا، فقد ادعيتم ما تعلم وما لا نعلم، ودعونا حتى نتبين دعواكم، ولا تعجلوا إلى الحرب، فليس كل كثير غالباً، وضعوا الرهائن عند من ترضون به ونرضاه، فقبلوا ذلك، وتراضوا أن تكون الرهائن عند سبيع بن عمرو (من بنى ثعلبة بن زيد بن ذيبان)، فمات سبيع وهم عنده، فلما حضرته الوفاة قال لا بنه مالك: إن عندك مكرمة لا تبيد إن أنت احتفظت بهؤلاء الأغيلمة، وكأني بك لو قد مت أتاك حذيفة خالك، فعصر عينيه وقال: هلك سيدنا، ثم خدعك عنهم حتى تدفعهم إليه، فقتلهم، فلا شرف بعدها، فإن خفت ذلك فاذهب بهم إلى قومهم.
فلما ثقل سبيع جعل حذيفة يبكى ويقول: هلك سيدنا، فوقع ذلك في قلب مالك، فلما هلك سبيع أطاف حذيفة بابنه مالك فأعظمه، ثم قال له: يا مالك، إني خالك، وإني أسن منك، فادفع إليّ هؤلاء الصبيان ليكونوا عندي إلى أن ننظر في أمرنا فإنه قبيح أن تملك شيئاً، ثم لم يزل به حتى دفعهم إليه باليعمرية.
وأحضر أهل الذين قتلوا فجعل كل يوم يبرز غلاماً فينصبه غرضاً ويرمى بالنبل ثم يقول: ناد أباك، فينادي أباه، حتى يمزقه النبل، ويقول لواقد بن جندب: ناد أباك. فجعل ينادى يا عماه - خلافاً عليهم – ويكره أن يأبس – الأبس: القهر والحمل على المكروه- أباه بذلك، وقال لابن جنيدب بن عمرو بن عبدالأسلع: ناد جنيبة – وهو لقب أبيه -، فجعل ينادي: يا عمراه! باسم أبيه حتى قتل، وقتل أيضاً عتبة بن شهاب بن قيس بن زهير. و لما بلغ ذلك بني عبس أخذوا ما كانوا جمعوا من الديات، فحملوا عليه الرجال واشتروا السلاح.
ثم خرج قيس في جماعة، فلقوا ابناً لحذيفة، ومعه فوارس من ذبيان فقتلوهم، فجمع حذيفة قومه وسار إلى عبس وهو على ماء يقال له عراعر، فاقتتلوا وكان الظفر لذيبان، ورجعت سالمة.
ثم جد حذيفة في الحرب، وكرهها أخوه حمل بن حذيفة، وندم على ما كان، وقال لأخيه في الصلح فلم يجب إلى ذلك، وجمع الجموع من أسد وذيبان وسائر بطون غطفان وسار نحو بني عبس.
ولما بلغ بني عبس أنهم قد ساروا إليهم تشاوروا بينهم، فقال قيس: أطيعوني فوالله لئن لم تفعلوا لأتكئن على سيفي حتى يخرج من ظهري. قالوا: فإنا نطيعك. فأمرهم فسرحوا السوام والضعاف بليل، وهو يريدون أن يظعنوا من منزلهم ذلك، ثم ارتحلوا في الصبح وقد مضى سوامهم وضعافهم.
فلما أصبحوا طلعت عليهم الخيل، فقال قيس: خذوا غير طريق المال – أي غير طريق الإبل-، فإنه لا حاجة للقوم أن يقعوا في شوكتكم، ولا يريدون بكم في أنفسكم شراً من ذهاب أموالكم، فأخذوا غير طريق المال. ولما رأى حذيفة الأثر قال: أبعدهم الله! وما خيرهم بعد ذهاب أموالهم؟ ثم اتبع المال وسارت ظعن بنى عبس والمقاتلة من ورائهم، وتبع حذيفة وبنو ذيبان المال، فلما أدركوه ردّوا أوله على آخره، ولم يفلت منه شيء، وجعل الرجل يطرد ما قدر عليه من الإبل، فيذهب بها، ثم تفرقوا واشتد الحر.
¥