تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقد قال بهذا القول المغرض وقام به جماعة؛ حتى آلوا فيه إلى غاية البشاعة والشناعة؛ فكان أن قالوا في قصيده العتيد في رثاء القائد ابن حميد، الذي أوله:

كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر = فليس لعين لم يفض ماؤها عذر

قالوا:إنه مأخوذ من شعر بعض الأعراب. وهذا والله منهم العجب العجاب! ولا تعليق عليه ولا جواب؛ إلا أن هذه الغانية قد غنيت بحسنها عن الأتراب، فضلا عن أن تتعلق بفضلة الأنساب!

ثم إنهم قد غلوا في ذلك غلوا ظاهرا؛ حتى قال قائلهم وبالإنصاف متظاهرا: إن شعر أبي تمام مسروق كله إلا معان ثلاثه؛ كأنه قد أحصى أمد القريض واستوفى ميراثه. وماذا عليه لو لم يستثني؛ فيعنِّي نفسه كل هذا التعني!

ولو أمَّ الناسُ هذا الأمّّ، وترسّموا هذا الرسم؛ لما بقي للشعراء من شعرهم إلا بقية من رسم. ولبطل قول الآخر، مما تعاظم به وتفاخر:

وإني وإن كنت الأخير زمانه = لآت بما لم تستطعه الأوائل

ولكن طرائق السَّرَق والأخذ معدودة معروفة، وهي عند أئمة البيان والنقد محدودة موصوفة، ثم إن لهم فيها بعدُ مندوحة وسَعَه، لا تسعها عقول هؤلياء المبتدعه.

على أن من نظر إلى شعر الرجل بعين التجرد والإنصاف؛ لا سيما شعره في الحكمة والأوصاف؛ لجرَّد من بدائعه وروائعه وعجائب صنائعه، ما يملأ ما بين الدفتين، ويقع مما سبقه ولحقه موقع الحاجب من العين. وهل أجهدَ أبا تمام وذهب بماء حياته لا حيائه؛ إلا ما وطَّن له شعره من استخراج الدرر من عين المحيط، واستدخال الخيط في مضيق عين المخيط. كقوله:

لا تنكري منه تخديداً تجلّله = فالسيف لا يزدرى إن كان ذا شُطب

وقوله:

والسهم بالريش اللؤام ولن ترى = بيتاً بلا عمدٍ ولا أطناب

وقوله:

رُبّ خفضٍ تحت السرى وغناء = من عناء، ونضرةٍ من شحوبِ

وقوله:

لو رأينا التوكيد خطة عجز = ما شفعنا الأذان بالتثويب

وقوله:

ومن لم يُسلِّم للنوائب أصبحت = خلائقه طُراً عليه نوائبا

وقد يَكهم السيف المسمى منيّة = وقد يرجع المرء المظفر خائباً

فآفة ذا ألا يصادق مضرباً = وآفة ذا ألا يصادف ضاربا

وقوله:

أحلى الرجال من النساء مواقعاً = من كان أشبههم بهن خدودا

وقوله:

ما إن ترى الأحساب بيضاً وضّحاً = إلا بحيث ترى المنايا سودا

وقوله:

إن ريب الزمان يحسن أن يهدي الرْ= رَزايا إلى ذوب الأحساب

فلهذا يجفّ بعد اخضرارٍ = قبل روض الوهاد روض الروابي

وقوله:

وطول مقام المرء في الحي مخلق = لديباجتيه، فاغترب تتجدد

فإني رأيت الشمس زيدت محبة = إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد

وقوله:

محاسنُ أصناف المغنين جمة = وما قصبات السبق إلا لمعبدِ

وقوله:

وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ = طويت أتاح لها لسان حسود

لولا اشتعال النار فيما جاورت = ما كان يُعرف طيب عَرف العود

ولو استزدتَ من ذلك لزدت، ولجدتُ لك بمثله ولاستجدت، ولكن حسبي ما أحاط بالعنق من القلاده، وفي القليل غنية عن الكثير، ولله الحمد، وزياده.

ـ[أحمد بن يحيى]ــــــــ[05 - 04 - 2008, 10:44 ص]ـ

(7)

أقدم أبا تمام لأنهم قالوا إن بين اختياراته لغيره وما ارتضاه لنفسه تفاوت واختلاف؛ وما ذلك عندي بعجيب؛ فكما أن الشعرَ للقلب شِغاف، فإنه كذلك للعقل ثقاف. وقد كان أبو تمام شاعرا عالما بالشعر؛ فهو فيهما إمام، وكم عالم ٍ برد شعره واستثقل حتى وخم حاشا أبا تمام!

هذا ما كان من شأن أبي تمام؛ إذ هو في الشعر كبدر التمام. ولم ينازعه في هذه المنزلة إلا البحتري وأبو الطيب؛ فاختلف العلماء بالشعر، بين مقدم ومؤخر، ومبعد ومقرب.

على أن أحسن من فصّل في ذلك: صاحب المثل السائر؛ حيث قال في بيان ساحر، ومنطق باهر ظاهر:

" وهؤلاء الثلاثة - أبو تمام، والبحتري، والمتنبي - هم لات الشعر، وعُزَّاه، ومناتُه، الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته، وجمعت بين الأمثال السائرة وحكمة الحكماء؛ وقد حوت أشعارهم غرابة المحدثين إلى فصاحة القدماء.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير