. والفحولة الشعرية لدى العرب مشتقّة من الفحولة الذكوريّة، وأنّى لأُنثى أن تغدو شاعرة فحلة! فذلك في عرفهم نقيض أساسيّ لطبيعتها، حتى لقد عبّر الأصمعي في كتابه (فحولة الشعراء) عن استهجانه شعر عَدِيّ بن زيد العبادي، وقد سئل عنه: أفحل هو؟ فقال: (ليس بفحل ولا أنثى)! أي أنه في فقه الشعر والشعراء: (خنثى مشكل)، بمعايير الأصمعي، وما يمثله الأصمعي من قيم ثقافيّة .. أو أنه، أي عَدِيّ بن زيد، ليس بفحل ولا حتى بأنثى، فهو عنده: لا شيء! وناتج ذلك بعضه أسوأ من بعض! ولرب قائل اليوم يقول: (ألا ليت القديم يعود حيًّا، فنخبره بما فعل الحديثُ) .. فما أشبه البارحة باليوم!
لهذا لم يكن مستغرباً أن لا يُعترف لمهلهل بن ربيعة بالفحولة، ما دام فيه وفي شعره (خنثٌ ولين)، كما وصفوه، وكان كثير المحادثة للنساء، حتى سمّاه كليب: (زير نساء).
وإذا كان التعارض قد قام لديهم بين مفهوم الهلهلة والفحولة بين شاعرين ذكرين، فلا بدّ أن لا يبصروا إلاّ التنافي بين الفحولة والأنوثة. ومن أجل هذا، وعلى الرغم من أن الأسئلة كانت تتوارد عن فحولية مختلف الشعراء، كبيرهم وصغيرهم، قديمهم وحديثهم، فإن الخنساء لا سؤال عنها البتة لدى نقادنا القدماء. إذا عُدَّت، عُدَّت في ذيل عشر طبقات شعرية مقدّمة من الجاهليين والإسلاميين، وذلك ضمن طبقة أصحاب المراثي التي تأتي مباشرة قبل طبقة شعراء القرى واليهود مُقَدَّماً عليها في الرثاء متمّم بن نويرة. (انظر: ابن سلام الجمحي، طبقات الشعراء). وإذا جاء التساؤل عنها جاء على استحياء في سياق المفاضلة بينها وبنت جنسها، ثانية اثنتين، الشاعرة (ليلى الأخيلية).
إن المرأة سؤال غير مطروح أصلاً في السياق العربي، وفق القِيَم الثقافية التي كان يتبنّاها كلا السائل والمسؤول.
ومع شهاداتهم للخنساء بالشاعريّة حيث يصفها (النابغة) بأنها أشعر الجنّ والإنس، لولا أبو بصير، ويصفها (جرير) بأنها أشعر الناس، وأجمعوا على أنها أشعر نساء العرب، وذهبوا إلى أنها لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها، متفقين على الإعجاب بها، جاهليين وإسلاميين، وعلى رأسهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، (انظر: ابن الشجري، حماسة ابن الشجري) مع ذلك كله لم يكن من سبيل لمساواتها بطوال الشوارب من الشعراء الرجال! لأنه قد اختلّ أمامهم معيار الشعرية في شعرها، ليس لكونه رثاءً صرفاً، يفتقر إلى التقاليد البنائية الفحولية للقصيدة العربية وعلى رأسها مقدمة الأطلال والنسيب، وهما عنوان الفحولة لا الأنوثة فحسب؛ لكن أيضاً لأن صاحبة ذلك الشعر كانت (امرأة). أي أنهم يعتدّون بشعريّتها حينما يخلصون إلى أنفسهم من وطأة القِيَم الثقافيّة التقليديّة، خلا أنهم ما يلبثون أن يتوقّفوا إزاء نموذج مختلف، لا فحوليّ حسب أعرافهم: صاحبته امرأة، وقد كسرتْ القالب البنائي التقليدي الذكوريّ بأنماطه الجاهزة المألوفة، فوحّدتْ القصيدة في بناء عضوي يدور حول قضية الموت وأثره على نفسية الأنثى بناءٍ تظلّ تغذّيه وتنمّيه الشاعرة فِعْلَ الرحم الأموميّ بالجنين. وهو نهج كان في الاتجاه المعاكس تماماً للفحوليّة، إنْ على المستوى النفسي للشاعر أو على المستوى البنائي للقصيدة.
تلك المعايير الفحولية لم تكن لتستوعب إذن هذا المختلف (الخنساويّ)، الذي يحيل القصيدة إلى لوحة تشكيلية تتولّد حيّة كهذه مثلاً إذ تقول عن أخيها صخر وأبيها:
جارَى أباه، فأقْبلا وهُما = يتعاوران مُلاءةَ الفَخْرِ
حتّى إذا نَزَتِ القُلُوبُ وقدْ =لزّتْ هناك العُذْرَ بالعُذْرِ
وعلا هُتافُ الناسِ: أيّهما؟ = قال المُجيبُ، هُناكَ: لا أدري
برزتْ صحيفةُ وجهِ والدهِ = ومضى على غلوائهِ يجري
أَولَى فأَولَى أن يساويَهُ = لولا جلالُ السّنّ والكِبْرِ
وهما .. كأنهما .. وقدْ برزا = صقرانِ قد حَطّا على وَكْرِ
فلقد جاء لقب الخنساء فرزاً عنصريّاً لهذا الضرب من الشعر الأنثوي المختلف عن الشعر الفحولي، اختلاف الأنوثة عن الذكورة.
¥