ولهذا السبب نفسه كان انتصار المنتصرين لها انتصاراً منقوصاً بغير وجه تعليليّ واضح، إلاّ بأن يقول النابغة مثلاً، بعد أن أنشدتْه عقب الأعشى وحسّان: (لولا أن أبا بصير أنشدني آنفًا لقلتُ: إنكِ أشعر الجنّ والإنس). أو (والله ما رأيتُ ذات مثانة أشعر منك). وما الإشارة إلى (المثانة) هاهنا إلا ازدراء للمرأة في معرض المدح! أمّا تقديمها على الشاعر الفحل حسّان بن ثابت فحكاية لعبتْ وراءها العصبية القبليّة ما لعبتْ. ولعلها لم تصدر عن حكومة النابغة في سوق عكاظ، ولكن عن أجواء الصراع القبليّ القيسيّ اليمانيّ في البصرة، إبان العهد الأموي؛ لتوظَّف للانتقاص من شعرية اليمن، بحيث لم يُعدل شاعرُه بشاعرٍ قيسيّ ولا حتى بشاعرة قيسيّة! ذلك الموقف الذي تزعم الحكاية أن حسّاناً قد خنس له أو أنه أُحنق، فقال للنابغة: (والله لأنا أشعر منك ومن أبيك ومن جدك!)؛ ثم قال النابغة: (للخنساء أنشديه، فأنشدته، فقال: والله ما رأيتُ ذات مثانة أشعر منك! فقالتْ له الخنساءُ: والله، ولا ذا خُصْيَيْن!) كأنها تلمز بدورها حسّاناً؛ بقرينة ردّ حسّان في بعض الروايات: (أنا والله أشعر منكَ ومنها). ثم شرع النابغة ينتقد مشهورة حسّان التي جاء يُدِلّ بها دون سائر شعره: (لنا الجفنات الغرّ)، حتى (قام حسّان منكسراً منقطعا)، كما تزعم الرواية. وممّا يؤكّد اختلاق هذه الحكاية، وأنها لا تعني شيئاً في تقديم الخنساء، أن اليمانيين قد انتصفوا من النابغة والقيسيين جميعاً بحكاية مقابلة، تزعم أن النابغة إنما تعلّم نظم القوافي لدى قوم حسّان من الأوس والخزرج، حيث لم يكن ليُحسن التخلّص من الإقواء في قوافيه إلاّ بعد أن زار يثرب، فعاد وهو يقول: (وردت يثرب وفي شعري بعضُ العاهة، فصدرتُ عنها وأنا أشعرُ الناس). فهذه بتلك! ولا اغترار إذن بتلك المؤشرات الظاهريّة على الاعتراف بمزاحمة الخنساء للفحل في سوق عكاظ.
ولأنّ لقب الخنساء لقبٌ فنّيّ جاء حيلولةً قيميّة لنفي الاختلاط بين شعر النساء وشعر الذكور، وحتى لا تلتبس آلهة الشعر أو شياطينه الخنساويّة الشمسيّة بآلهته أو شياطينه الفحوليّة القمريّة فإن لقب (الخنساء) قد اخُتصّتْ به هذه المرأة الشاعرة الفذّة التي تحدّت الرجال في عُقْر سوقهم الفحوليّ ولم يكن من قبلها اسماً معروفاً في النساء أو لقباً، كما لم تكن من قبلها امرأةٌ معروفةٌ فعلتْ فعلها في سوق العرب.
ومهما يكن من قول حول تلك الأسباب الثقافية وراء بعض ألقاب الشعراء الجاهليين، فإن ألقاب الشعراء لتدلّ أيضاً كما تبيّن من درسها في المساقات الماضية على وعيٍ نقديّ لدى العرب بكُمُون شخصية الشاعر في شعره وإنْ ناقض ظاهريّاً سلوكُه شِعْرَه ومن ثم اعتبارهم لبنية السياق الشعري، وأن العمل الأدبي لا يستقلّ عن سياقه النفسيّ أو الاجتماعيّ أو الثقافيّ. (انظر في هذا مثلاً: سبندر، ستيفن، (د. ت)، الحياة والشاعر، تر. مصطفى بدوي (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية)، 64 66؛ تودوروف، (1990)، الشعرية، تر. شكري المبخوت ورجاء بن سلامة (الدر البيضاء: دار توبقال)،
ـ[رسالة الغفران]ــــــــ[01 - 04 - 2008, 11:18 ص]ـ
من المدافعين ايضا
قدامة بن جعفر فى كتابه (نقد الشعر) عن بيت حسان السالف ذكره فقال:-
[ ... فمن ذلك أن حسان لم يرد بقوله: الغر، أن يجعل الجفان بيضاً، فإذا قصر عن تصيير جميعها أبيض نقص ما أراده، وإنما أراد بقوله: الغر، المشهورات، كما يقال يوم أغر ويد غراء، وليس يراد البياض في شيء من ذلك، بل تراد الشهرة والنباهة.
وأما قول النابغة في: يلمعن بالضحى، أنه لو قال: بالدجى، لكان أحسن من قوله: بالضحى، إذ كل شيء يلمع بالضحى، فهو خلاف الحق وعكس الواجب، لأنه ليس يكاد يلمع بالنهار من الأشياء إلا الساطع النور الشديد الضياء، فأما الليل فأكثر الأشياء، مما له أدنى نور وأيسر بصيص، يلمع فيه، فمن ذلك الكواكب، وهي بارزة لنا مقابلة لأبصارنا، دائماً تلمع بالليل ويقل، لمعانها بالنهار حتى تخفى، وكذلك السرج والمصابيح ينقص نورها كلما أضحى النهار، والليل تلمع فيه عيون السباع لشدة بصيصها، وكذلك اليراع حتى تخال ناراً.
وأما قول النابغة، أو من قال: إن قوله في السيوف: يجرين، خير من قوله: يقطرن، لأن الجري أكثر من القطر، فلم يرد حسان الكثرة، وإنما ذهب إلى ما يلفظ به الناس ويتعاودونه من وصف الشجاع الباسل والبطل الفاتك بأن يقولوا: سيفه يقطر دماً، ولم يسمع: سيفه يجري دماً، ولعله لو قال: يجرين دماً، لعدل عن المألوف المعروف من وصف الشجاع النجد إلى ما لم تجر عادة العرب به. .. ]
ـ[رسالة الغفران]ــــــــ[02 - 04 - 2008, 12:49 م]ـ
خبر موت صخر -1
أخبرنا محمد بن الحسن بن دريد، عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة،
وأضفت إليه رواية الأثرم عن أبي عبيدة قال:
غزا صخر بن عمرو، وأنس بن عباس الرعلي في بني سليم، بني أسد بن خزيمة،-قال أبو
عبيدة: وزعم السلمي أن هذا اليوم يقال له يوم الكلاب ويم ذي الأثل-في بني عوف وبني
خفاف، وكانا متساندين، وعلى بني خفاف صخر بن عمرو الشريدي، وعلى بني عوف
أنس بن عباس. قال: فأصابوا في بني أسد بن خزيمة غنائم وسبيا، وأخذ صخر يومئذ
بديلة امرأة. قال: وأصابت صخرا يومئذ طعنة، طعنه رجل يقال له ربيعة بن ثور، ويكنى
أبا ثور، فأدخل جوفه حلقا من الدرع فاندمل عليه حتى شق عنه بعد سنين، وكان سبب
موته.
¥