تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ألا يعلم أن المدار على العقل الذي من حرمه فقد أنقص من كل فقير، وعلى الدين الذي من عري منه فهو أسوأ حالاً من كل موسر؛ ونعمة الله على ضربين: أحد الضربين عم به عباده، وغمر بفضله خليقته، بدءاً بلا استحقاق وذلك أنه خلق ورزق وكفل وحفظ ونعش وكلأ وحرس وأمهل وأفضل ووهب وأجزل؛ وهذا هو العدل المخلوط بالإحسان، والتسوية المعمومة بالتفضل والقدرة المشتملة على الحكمة؛ والضرب الثاني هو الذي يستحق بالعمل والاجتهاد والسعي والارتياد، والاختبار والاعتقاد؛ ليكون جزاءً وثواباً، ولهذا محرم العاصي المخالف، وأنال الطائع الموافق؛ فقد بان الآن أن المدار ليس بالجنان والترفه، ولا بالذهب والفضة، ولا الوبر والمدر.

وقد مر هذا الكلام كله فليسكن من الجيهاني جأشه، وليفارقه طيشه؛ وليعلم أن من أنصف أعطى بيده، وسلم الفضل لأهله؛ فإن التواضع للحق رفعة والترفع بالباطل ضعة.

وههنا بقية ينبغي أن يتبصر فيها؛ من عرف النقص البحت، والنقص المشوب بالزيادة؛ والفضل الصرف، والفضل الممزوج بالنقيصة لم يجحد المغوي فضلاً، ولم يدع للعصبية المردية شرفاً، ولم ينكر الحسد مزية؛ والخلق كلهم في نعم الله تعالى مشتركون، وفي أياديه مغموسون وبمواهبه متفاضلون، وعلى قدرته متصرفون؛ وإلى مشيئته صائرون، وعن حكمته مخبرون، ولآلائه ذاكرون، ولنعمائه شاكرون، ولأياديه ناشرون، وعلى اختلاف قضائه صابرون، ولثوابه بالحسنات مستحقون، ولعقابه بالسيئات مستوجبون، ولعفوه برحمته منتظرون، والله خبيرٌ بما يعملون، وبصير بما يسرون وما يعلنون مع الجماعة، وأبو سليمان يقول: العرب أذهب مع صفو العقل؛ ولذلك هم بذكر المحاسن أبده، وعن أضدادها أنزه. ولو كانت رويتهم في وزن بديهتهم، كان الكمال؛ ولكن لما عز الكمال فيهم، عز أيضاً في غيرهم من الأمم، فالأمم كلها شرعٌ واحد في عدم الكمال إلا أنهم متفاضلون بعد هذا فيما نالوه بالخلقة الأولى، وبالاختيار الثاني؛ واختلفت أبصارهم في هذا الموضع، فأما ما منعه الإنسان في الأول فلا عتب عليه فيه، لأنه لا يقال للأعمى: لم لا تكون بصيراً، ولا يقال للطويل: لم لا تكون قصيراً وقد يقال للقصير: سدد طرفك، واكحل عينك، ومد ناظرك؛ كما يقال للطويل: تطامن، في هذا الزقاق حتى تدخل، وتقاصر حتى تصل؛ وأما ما لم يمنعه الإنسان في الأول، بل أعطيه ووهب له، فهو فيه مطلبٌ بما عليه وله كما أنه مطالب بما له وعليه.

وقال الجيهاني أيضاً: ليس للعرب كتاب إقليدس ولا المجسطي ولا الموسيقي ولا كتاب الفلاحة، ولا الطب ولا العلاج، ولا ما يجري في مصالح الأبدان، ويدخل في خواص الأنفس.

فليعلم الجيهاني أن هذا كله لهم بنوعٍ إلهي لا بنوع بشري، كما أن هذا كله لغيرهم بنوعٍ بشري لا بنوعٍ إلهي، وأعني بالإلهي والبشري الطباعي والصناعي؛ على أن إلهي هؤلاء قد مازجه بشرى هؤلاء، وبشرى هؤلاء قد شابه إلهي هؤلاء؛ ولو علم هذا الزاري لعلم أن المجسطي وما ذكره ليس للفرس أيضاً، وما عندي أنه مكابر فيدعي هذا لهم. فإن قال: هو لليونان، ويونان من العجم، والفرس من العجم، فأنا أخرج هذه الفضيلة من العجم إلى العجم فهذا منه حيفٌ على نفسه، وشهادةٌ على نقصه؛ لأنه لو فاخر يونان لم يستطع أن يدعي هذا الفرس، ولا يمكنه أن يقول: نحن أيضاً عجم، وفضيلتكم في هذه الكتب والصناعة متصلةٌ بنا، وراجعةٌ إلينا. ومتى قال جبه بالمكروه وقوبل بالقذع، وقيل له: صه، كما يقال للجاهل - إن لم تقل له: اخسأ، كما يقال - في كل الأحاديث، وإن أغفلته ظلمت نفسي؛ ومن حابى خصمه غلب.

قال القاضي أبو حامد المروروذي: لو كانت الفضائل كلها بعقدها وسمطها، ونظمها ونثرها، مجموعةً للفرس، ومصبوبةً على أرؤسهم، ومعلقةً بآذانهم، وطالعةً من جباههم؛ لكان لا ينبغي أن يذكروا شأنها، وأن يخرسوا عن دقها وجلها، مع نيكهم الأمهات والأخوات والبنات فإن هذا شر كريهٌ بالطباع، وضعيف بالسماع، ومردود عند كل ذي فطرة سليمة، ومستبشع في نفس كل من له جبلة معتدلة. قال: ومن تمام طغيانهم، وشدة بهتانهم، أنهم زعموا أن هذا بإذن من الله تعالى، وبشريعة أتت من عند الله، والله تعالى حرم الخبائث من المطعومات فكيف حلل الخبائث من المنكوحات?

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير