تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قال: وكذب القوم، لم يكن زرادشت نبياً، ولو كان نبياً لذكره الله تعالى في عرض الأنبياء الذين نوه بأسمائهم وردد ذكرهم في كتابه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" لأنه لا كتاب لهم من عند الله منزل على مبلغ عنه. وإنما هو خرافة خدعهم بها زرادشت بقوة الملك الذي قبل ذلك منه وحمل الناس عليه طوعاً وكرهاً، وترغيباً وترهيباً؛ وكيف يبعث الله نبياً يدعو إلى إلهين اثنين? وهذا مستحيل بالعقل، وما خلق الله العقل إلا ليشهد بالحق للمحق والباطل للمبطل؛ ولو كان شرعاً لكان ذلك شائعاً عند أهل الكتابين، أعني اليهود والنصارى؛ وكذلك عند الصابئين، وهم كانوا أكثر الناس عنايةً بالأديان والبحث عنها، والتوصل إلى معرفة حقائقها، ليكونوا من دينهم على ثقة؛ فكيف صارت النصارى تعرف عيسى، واليهود تعرف موسى؛ ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم يذكرهما ويذكر غيرهما، كداود وسليمان ويحيى وزكريا، وغير هؤلاء، ولا يذكر زرادشت بالنبوة وأنه جاء من عند الله تعالى بالصدق والحق كما جاء موسى وعيسى .... لكني بعثت ناسخاً لكل شريعة، ومجدداً لشريعة خصني الله بها من بين العرب.

قال: وهذا بيانٌ نافع في كذبهم؛ وإنما جاءوا إلى وهيٍ فرقعوه، وإلى حرامٍ بالعقل فأباحوه، وإلى خبيثٍ بالطبع فارتكبوه وإلى قبيحٍ في العادة فاستحسنوه.

وقد وجدنا في البهائم ما إذا أنزى الفحل منها على أمة لم يطاوع، وإذا أكره وخدم وعرض غضب على أهله وند عنهم، وشرر عليهم؛ فما تقول في خلق لا ترضاه البهيمة، ولا تطاوعه فيه الطبيعة، بل يأباه حسه مع كلولة وتبرد شهوته مع اشتعالها، ويرضاه هؤلاء القوم مع عجبهم بعقولهم، وكبرهم في أنفسهم.

ولو كان زرادشت أقام لهم على هذه الخصلة اللئيمة والفعلة الذميمة كل آية وكل برهان، ونثر عليهم نجوم السماء، وأطلع لهم الشمس من المغرب، وفتت لهم الجبال، وغيض لهم البحار، وأراهم الثريا تمشي على الأرض تخترق السكك وتشهد له بالصدق، لكان من الواجب بالعقل وبالغيرة وبالحمية وبالأنفة وبالتقزز وبالتعزز ألا يجيبوه إلى ذلك، ويشكوا في كل آية يرون منه، ويقتلوه، وينكلوا به.

ولكن بمثل هذا العقل قبلوا من مزدك ما قبلوه مرة، ولو عاملوا زرادشت بما عاملوا به مزدك ما كان الأمر إلا واحداً، ولا كان الحق إلا منصوراً، ولا كان الباطل إلا مقهوراً، ولكن اتفق على مزدك ملك عاقل فوضع باطله، واتفق لزرادشت ملك ركيك فرفع باطله؛ وما نزع الله عنهم الملك إلا بالحق، كما قال تعالى: "فلما آسفونا انتقمنا منهم". ثم قال: وبعد، فكل شيء خارجٍ من الحكمة الإلهية والعقلية والطبيعية فهو ساقطٌ بهرج، ومردودٌ مرذول، إذا فعله جاهل عذر بالجهل، وإذا أتاه عالم عذل للعلم.

قال: وكانت العرب بهذا الخلق الذميم، وهذا الفعل اللئيم، لو فعلته أعذر، لأنهم أشد غلمة من غيرهم وأكثر تهيجاً، وأقوى على البضاع، وأوثب على النساءئ يدلك على هذا غزلهم وعشقهم ونظمهم ونثرهم وفراغهم وشهوتهم، وتراهم مع هذه الدواعي والبواعث لم يستحسنوا هذا ولم يفعلوه، ولو أكرههم على هذا مكره ودعاهم إليه داع لما أطاعوه، ولذلك لم ينجم منهم ناجم بالحيلة فدعا إلى هذا؛ ولو كان لكان أول من دق رأسه بالعمد، وبعج بطنه بالخنجر؛ وما منعهم من هذا إلا الأنفس الكريمة، والطباع المعتدلة، والشكائم الشديدة، والأرواح العيفة، والعادات الرضية، والضرائب الطيبة؛ وكان وأد البنات عندهم أنفى للمعاير، وأطرد للقبائح من هذا الذي استحسنه زرادشت وقبل منه الفرس، وهم يدعون الحكم والعلم والحزم والعزم، ولفرط جهلهم وغلبة شهوتهم غفلوا عما يجوز أن يكون الله سبحانه مبيحاً له أو حاظراً، أو مطلقاً أو مانعاً، أو محللاً أو محرماً؛ هيهات ما كلف الله أهل العقل القيام بالدين والتصفح للحق من الباطل إلا لما شرفهم به في العاجل، وعرضهم له في الآجل؛ والعاقبة للمتقين.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير