ومفهوم الصحابة هذا لأسباب النزول- وإن تم التعامل معه في مصنفات العلماء باعتباره ليس دقيقاً فإن الباحث يرى أن ذلك يحتاج إلى دراسات معمقة؛ إذ لاحظ الباحث أن العبرة عند هولاء الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إنما تعلقت بالأوصاف والأفعال الواقعية التي حدثت وما يترتب عليها من أحكام في الآية ولا عبرة بالأشخاص والأعيان الذين نزلت فيهم الآية؛ فهذه الأسباب لا تراد لذاتها بل تراد لمعان دقيقة كامنة فيها، ولهذا تراهم رووا في أسباب نزول آية واحدة ثلاث قصص مختلفة ولا جامع بين هذه القصص إلا الوصف أو الفعل الذي تعلقت به الآية، وهذا يدل دلالة واضحة جداً على أنه لا عبرة إلا بهذا الوصف الذي يقع من الناس في كل زمان ومكان؛ وبذلك ينفتح تعريفهم على المقام بصورة أكبر مستخلصين منه النقاط المنهجية التي كانت أهمية الأسباب والمقامات فيها.
وإذا كان مفهوم "سبب النزول" بصورته المتأخرة هو ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه أو مبينة لحكمه أيام وقوعه- فإن المقام هو ما نزلت الآية متحدثة عنه بشكل من الأشكال أو مبينة لحكمه فحسب؛ ولأجل ذلك فهما متداخلان يقول ابن عاشور "ولمعرفة أسباب النزول مدخل في ظهور مقتضى الحال ووضوحه وهي تعين على تصوير مقام الكلام
إلا أن الفرق هو أن سبب النزول جزء من المقام وليس العكس؛فكل سبب نزول هو مقام وليس كل مقام سببا؛ إذ إن مفهوم المقام أوسع وأشمل
واقترح أن تُسمى أسباب النزول بـ"المقام" وبعضهم يسمي هذا المقام سياق الحال أو مقتضى الحال ونحو ذلك.
اعتراض على تسمية "مناسبة النزول"
أعجبتني الفكرة، ولكن التسمية الجديدة التي اقترحها رغم أنها قد تكون مناسبة جدا في إطار الدراسات القرآنية، ولو لا أمر شديدة البشاعة في واقعنا الفكري المعاصر - لوافقته عليها بلا تحفظ، ولكني أجد نفسي تتزاور عن هذه التسمية ذات اليمين وذات الشمال،وما ذاك إلا لأن الحداثيين الذين ينخرون في عظم الأمة ويحاولون هدم ثوابتها قد ركزوا دراساتهم حول "أسباب النزول " وهي عندهم كـ"مناسبة القصيدة "تماما؛ بل وأحيانا يقلبون التسميات فيقولون "مناسبة الآية" و" أسباب نزول القصيدة " وهم بذلك يحاولون إزاحة الأحكام القرآنية بالجملة والكلية؛ بدعوى ارتباط هذه الأحكام بواقع مخصوص هو "أسباب النزول " أو واقع النزول لا غيره؛ وبناء على ذلك تم تقييد الآيات في الزمان والمكان اللذين نزلت فيهما من ناحية وخصصت بالأعيان والأشخاص بحيث لا تتعداهم إلى سواهم من ناحية أخرى؛ فأفضى ذلك – عندهم – إلى القول بأن الآيات القرآنية وأحكامها كانت حلولاً مؤقتة لزمن ومكان مخصوصين، وقد ذهب عبد المجيد الشرفي إلى أن أسباب النزول تثبت أن القرآن قد انطوى على حلول ظرفية استجابت لواقع تاريخي محدد ولوضع معرفي معين.
وقد جعل أصحاب الحداثة أسباب النزول مدخلاً للتاريخانية التي حاولوا من خلالها -كما يدعون - الكشف عن السياق الاجتماعي والثقافي الذي تولّد منه هذا الدين وإعادة تفسيره حسب مقتضيات العصر؛ فذهبوا إلى أن القرآن مرهون بتاريخه؛ إذ هو عندهم مجرد إنتاج نسبي مقيّد بزمانه وغير صالح لكل زمان، وزعموا أن هذه التاريخانية تمثل الثورة الكوبرنكية في الدراسات القرآنية.
ومن أسوأ كتبهم في ذلك "أسباب النزول علما من علوم القرآن" لبسام الجمل الذي تخبّط تخبطا شديدا ودرس أسباب النزول من وجهة نظر علمانية بحتة، وكذلك كتاب أستاذه عبد المجيد الشرفي "الإسلام بين الرسالة والتاريخ " وأيضا هنالك كتب كبيرهم الذي علمهم السحر محمد أركون "تاريخية الفكر العربي "و"الفكر الأصولي واستحالة التأصيل"، وقد ذهب محمد أركون من خلال "أسباب النزول" إلى أن القرآن مشروط بتاريخيته أو بلحظته التاريخية التي ظهر فيها، وذهب أيضا إلى أن مقولة " الإسلام صالح لكل زمان و مكان " ما هي إلا مجرد صرامة عقائدية جامدة للتصورات القديمة الموروثة عن الإسلام، ويجب أن لا تجعل الإسلام مستعصيا على التاريخ أو أنه فوق الزمن و الواقع التاريخي وذكر أيضا أن أسباب النزول لم تُوضع بعد على محك النقد التاريخي و الأدبي، الذي لا بدّ عنه، ومن تلك الكتب أيضا كتاب "من العقيدة إلى الثورة " لحسن حنفي الذي ذهب إلى أن كل الآيات لصلتها القوية بذلك الواقع التاريخي قد كان لها أسباب؛ إذ أن أسباب النزول تعني – عنده – أولوية الواقع على الفكر وأن كل آية إنما هي تعبير عن موقف وحل لمشكل وهذا دليل – عنده - على تكيّف الوحي بالواقع ومناداته له.
أخيرا أليس لي العذر بعد ذلك في رفض التسمية التي اقترحها الكاتب رغم جمالها داخل ذلك الإطار الذي ينطلق منه
ـ[عبد الله المدني]ــــــــ[20 Feb 2009, 01:40 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
أحسن الله إليك فضيلة الشيخ أبا مجاهد، فالتعبير بالمناسبة أدق من التعبير بالسبب، وأقل إثارة للشبهات. ويا ليت الدارسين لكتاب الله اليوم يراجعون هذه المسألة! والله الموفق للخير والمعين عليه.