ونحن نقول هنا قد أخبر القرآن عن داود عليه السلام بما هو أعظم من هذه السرعة في القراءة مع الفهم:
قال تعالى: (وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين) [الأنبياء: 79].
وقال تعالى: (ولقد آتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد) [سبأ: 10].
فإذا كان العقل يصدق بتسبيح الجبال والطير مع داود عليه السلام، وأن الحديد قد لان بيده فيصنع منه ما شاء؛ فكيف ينكر بعد ذلك أن يكون قد وهبه الله من القدرة ما يستطيع به قراءة التوراة في مدة يسيرة مع الفهم والتدبر، وليس في ذلك عجبٌ، إذ الأنبياء لهم شأن خاص، وقد أخبر تعالى زيادة على ذلك أن داود عليه السلام صاحب قوة فقال: (واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب) [ص: 17].
قال ابن جرير: " ويعني بقوله: (ذا الأيد): ذا القوّة والبطش الشديد في ذات الله والصبر على طاعته" (20).
وقال السعدي: " ومن أعظم العابدين، نبيُّ اللّه داود عليه الصلاة والسلام، (ذا الأيد) أي: القوة العظيمة على عبادة اللّه تعالى، في بدنه وقلبه" (21).
وقال ابن كثير: " فكان يقرأ الزبور بمقدار ما تسرج الدواب، وهذا أمر سريع مع التدبر والترنم والتغني به على وجه التخشع صلوات الله وسلامه عليه وقد قال الله تعالى: (وآتينا داود زبوراً) [النساء: 163، الإسراء: 55] " (22).
فهنا قد اجتمع العقل مع القرآن العظيم في قبول معنى هذا الحديث الشريف، فما بال الكاتب يرده وقد قال هو في مقدمة كتابه هذا: " المهم أن يكون النقد نقداً بناءً، نقداً مستنداً على القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من أية جهة كانت" (23).
وقد ذكر هو أيضاً حديثاً مرفوعاً: " فما أتاكم عني يوافق القرآن فهو عني " (24).
وقد وقع بعض هذه السرعة لمن هم دون الأنبياء:
قال ابن حجر: " وَفِي الْحَدِيث أَنَّ الْبَرَكَة قَدْ تَقَع فِي الزَّمَن الْيَسِير حَتَّى يَقَع فِيهِ الْعَمَل الْكَثِير. قَالَ النَّوَوِيّ: أَكْثَر مَا بَلَغَنَا مِنْ ذَلِكَ مِنْ كَانَ يَقْرَأ أَرْبَع خَتَمَات بِاللَّيْلِ وَأَرْبَعًا بِالنَّهَارِ، وَقَدْ بَالَغَ بَعْض الصُّوفِيَّة فِي ذَلِكَ فَادَّعَى شَيْئًا مُفْرِطًا، وَالْعِلْم عِنْد اللَّه" (25).
وقال العيني:" وفيه الدلالة على أن الله تعالى يطوي الزمان لمن يشاء من عباده كما يطوي المكان وهذا لا سبيل إلى إدراكه إلا بالفيض الرباني ... ولقد رأيت رجلاً حافظاً قرأ ثلاث ختمات في الوتر في كل ركعة ختمة في ليلة القدر" (26).
والله أعلم ...
ـــــــــــــ
حواشي:
(1) صحيح البخاري: كتاب الأنبياء: باب قول الله: (وآتينا داود زبوراً): (6/ 522) رقم (3417)، وفي التفسير: باب (وآتينا داود زبوراً): (8/ 248 ـ 249) رقم (4713).
(2) نحو تفعيل قواعد نقد متن الحديث: (187).
(3) فتح الباري: (13/ 189).
(4) شرح البخاري: (19/ 360).
(5) عون المعبود: (10/ 186).
(6) كشف المشكل: (1/ 1010).
(7) البداية والنهاية: (2/ 11).
(8) فتح الباري: (6/ 524). وروى هذا الحديث بهذا اللفظ: ابن حبان في صحيحه: (14/ 117) رقم (6225). قال شعيب الأرنؤوط: " صحيح ".
(9) فتح الباري: (6/ 524).
(10) السابق: (13/ 189).
(11) عمدة القاري: (17/ 293).
(12) النهاية: (4/ 30).
(13) فتح الباري: (6/ 524).
(14) عمدة القاري: (23/ 368).
(15) هداية الحيارى: (1/ 79).
(16) الجواب الصحيح: (5/ 157).
(17) مجموع الفتاوى: (7/ 516).
(18) حاشية ابن القيم على سنن أبي داود: (12/ 279). وانظر: عون المعبود: (10/ 186).
(19) البداية والنهاية: (6/ 63).
(20) جامع البيان: (21/ 166).
(21) تفسير السعدي: (1/ 711).
(22) البداية والنهاية: (2/ 11).
(23) نحو تفعيل قواعد نقد متن الحديث: (9).
(24) نحو تفعيل قواعد نقد متن الحديث: (11).
(25) فتح الباري: (6/ 524).
(26) عمدة القاري: (23/ 368).
ـ[أبو هريرة منير البركي]ــــــــ[20 Jul 2007, 04:47 م]ـ
نسال الله أن يحشرنا مع الأنبياء والصدقين وحسن أولئك رفيقاً ...
ونشكر أخانا في الله (فهد الوهبي) في ميزان أعمالك ...
ـ[عبدالرحمن الشهري]ــــــــ[20 Jul 2007, 05:27 م]ـ
أحسنت يا أبا سلاف وفقك الله ونفع بك وجزاك خيراً.
ـ[محمد كالو]ــــــــ[20 Jul 2007, 07:38 م]ـ
الأخ فهد الوهبي أحسنت بارك الله فيك ووفقك وسدد خطاك.
ـ[محب القراءات]ــــــــ[20 Jul 2007, 10:54 م]ـ
زادك الله علما يا أبا سلاف ونفع بك وبارك فيك
ـ[أبو عبد الرحمن المدني]ــــــــ[21 Jul 2007, 05:42 ص]ـ
جزاك الله خيرا يا شيخ فهد على هذا التوضيح والبيان
أسأل الله أن يبارك لك في علمك وأن يهبك مزيدا من الفهم في الكتاب والسنة
¥