تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقد أدرك هذه السعادة الغامرة الإمام القرطبي فعزم واستفرغ قوته ورأى أن يشتغل بالتفسير مدى العمر ـ رحمه الله تعالى ـ (17).

وإن بعض العلماء الذين برزوا في الدعوة إلى الله، وقاموا بنهضة شاملة وإصلاح عامّ اعتمدوا في دعوتهم ـ بعد الله ـ على دروس التفسير، فأثمرت دعوتهم ونالت قبولاً، وأقبل عليها الناس من جميع الأصناف والطبقات، وأحدثت دعوتهم تغييراً إصلاحياً في العقيدة والسلوك، وانتشرت في الشرق والغرب.

وإذا أردنا أن نتجول مع هذا الأثر الحميد فسنجد من بين هؤلاء المبرّزين الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ت 1376هـ. وقد اعتمد في دعوته في نشر التوحيد والإصلاح في ربوع نجد على تفسير القرآن الكريم، فكان ذا عناية فائقة بالتفسير وفنونه وبرع فيه؛ فألف ثلاثة كتب في التفسير وحده: (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)، و (تيسير اللطيف المنان في خلاصة القرآن)، و (القواعد الحسان لتفسير القرآن) (18).

وإذا انتقلنا غرباً إلى مصر فإننا نجد محمد عبده يعتمد في دروسه على التفسير (19)، فقد ألح عليه تلميذه رشيد رضا أن يلقي دروساً في التفسير، ويعلل لذلك بقوله: (إن الكلام المسموع يؤثر في النفس أكثر مما يؤثر الكلام المقروء) ثم واصل بعده رشيد رضا إلى أن حان أجله دون إكمال التفسير ـ رحم الله الجميع ـ.

وإذا انتقلنا إلى تونس غرباً وجدنا الإمام الطاهر بن عاشور يتأثر بمدرسة رشيد رضا في التفسير، وألف تفسيراً كاملاً سماه: (التحرير والتنوير)، فحرر الناس من الجهل والظلمات ونوّر به البلاد التونسية. وإذا انتقلنا قليلاً إلى الغرب في الجزائر فإننا نجد الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس قد اقتصر عليه في دعوته الإصلاحية الشاملة ابتداءً بتحقيق التوحيد وحقوقه إلى محاربة الاستعمار؛ فقد عكف على تفسير القرآن إلى أن ختمه في ثلاث وعشرين سنة على مدة التنزيل ولم يختم التفسير رواية ودراية في الجزائر غيره منذ أن ختمه أبو عبد الله الشريف التلمساني في المائة الثامنة فتعلم الناس منه كلّ شيء (20).

وإذا عرّجنا جنوباً إلى بلاد شنقيط وجدنا الإمام محمد الأمين الشنقيطي يفسر القرآن بالقرآن ويسميه: (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن).

فهؤلاء الأئمة ـ رحمهم الله ـ كانوا مجاهدين بالقرآن: بتفسيره وبيانه والتفقه فيه، وقد سمّى القرآن ذلك جهاداً كبيراً فقال: ((وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً)) [الفرقان: 52] أي بالقرآن كما ذكره ابن عباس، وفي هذا منقبة عظيمة لمن يدعو إلى الله ـ تعالى ـ بالقرآن العظيم وتفسيره وتوضيحه للناس فهو مجاهد (21) اقتداءً بالمصطفى صلى الله عليه وسلم؛ حيث أمره الله أن ينذر قومه بالوحي: ((قُلْ إنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ)) [الأنبياء: 45] وقال: ((وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ)) [الأنعام: 19] فكل من أنذر الناس بغير هذا الوحي فهو مخطئ.

من ثمرات التفسير:

من أهم ما يثمره تفسير القرآن والتفقه فيه في شخصية الطالب التخلص من التعصب والتقليد، بل إذا ابتدأ الطلب بعد حفظ القرآن بعلم تفسيره وبيانه كما رتبه الله في قوله: ((يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ)) لم يجد هذا الهاجس إلى نفسه سبيلاً، وينتفي. وما وُجِدَ التعصب والتقليد إلا بمخالفة المنهج الذي رسمه القرآن في التعليم، وهو التلاوة والتفسير والحكمة والتزكية؛ كما جاء في قوله ـ تعالى ـ: ((رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ)) [البقرة: 129].

فبمخالفتنا لمنهج التربية والتعليم كما رسمه القرآن الكريم نعلّم الطلاب التعصب والتقليد من حيث لا ندري؛ ولذلك نجد كتب التفسير تختلف اختلافاً كبيراً؛ نظراً لكون أصحابها دخلوا باب التفسير بعدما تشبعوا بأفكار ومذاهب ظهرت آثارها في تفسيرهم، في حين أن الذي دخل إلى التفسير كما دخله الصحابة والتابعون ومن تبعهم واقتفى آثارهم ظهرت آثار التفسير فيهم؛ فالسلف تأثروا بتفسير القرآن، وأثّر التفسير فيهم، والخلف أثروا في التفسير، ولم يتأثروا به.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير