تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فظاهرة التعصب والتقليد لا تُمحى إلا بتفسير القرآن وفهمه والتفقه فيه؛ لأن النظر في القرآن نفسه وفي ألفاظه بالذات يجعل الطالب يأخذ الحكم الذي تدل عليه الآية دلالة قطعية أو الحكم الأقرب إلى نص الآية إن اختلفت فيها أنظار العلماء. وفي دروس التفسير والتفقه في القرآن يتعلم الطالب الاستقلال في الأخذ والترجيح، وعدم التبعية والتقليد.

ومما يدل على استقلال شخصية طالب علم التفسير والتفقه في القرآن ما لاحظته عند ابن العربي مع أنه كثيراً ما يتعصب لمذهبه ويحمل على المخالفين، إلا أن أسلوب القرآن وروعة بيانه أرغمه في بعض المواضع من كتابه: (أحكام القرآن) على عدم التعصب وعلى ترجيح مذهب المخالفين لمذهبه مبيناً الوجه والسبب، فقال عند قوله ـ تعالى ـ: ((كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)) [الأنعام: 141] قال: قال أبو حنيفة: (تجب الزكاة في كل ما تنبته الأرض من المأكولات) ثم تعرّض لذكر بقية المذاهب وصرح بما يخالف مذهبه فقال: (أما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق) (22).

قال القرطبي: (وأخذ يعضد مذهب الحنفي ويقويه) (23).

هذا هو حال من يطلب فقه القرآن لا فقه الفقه، وهكذا حال كل من يجعل القرآن مرآته؛ فإنه يبصر الحق كما أبصره الإمام أبو حنيفة وابن العربي ـ رحم الله الجميع ـ فما أحوجنا اليوم إلى أن نجعل القرآن مرآتنا لنبصر الحق والهدى والرشاد.

والطالب الذي يتعلم على هذا النمط في التفسير والتفقه في القرآن تكتسب شخصيته اتزاناً واعتدالاً وتكاملاً ولا ينحاز ولا يميل؛ لأن المصدر الذي يتلقى منه علومه واحدٌ، فلا يطغى عليه جانب دون جانب؛ فهو عند آيات الأسماء والصفات يتعلم أسماء الله وصفاته بلا تعطيل ولا تمثيل، وإذا جاء إلى آيات الجهاد تعلم وتفقه في أحكام الجهاد، وإذا جاء إلى آيات الأحكام تعلم الفقه والأحكام الشرعية، وإذا مر على آيات الفرائض تعلم ذلك، ولا شك، وإذا مر على البر والإحسان تعلم ذلك، وتطبع به وعمل به، وإذا مر على الآيات التي يذكر فيها أخبار الأمم السابقة وأحوالهم وما آل إليه أمرهم اعتبر بذلك واتعظ، وتعلم قصص الأنبياء والرسل وما لاقوه في سبيل الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ وعلم طرق الدعوة ووسائلها وأهدافها.

وإذا مر على الآيات التي تدعو إلى التفكر والتأمل والاعتبار لمخلوقات الله الكونية تعلم طرق التدبر والتفكر، فتنمو فيه ملكة التفكير السليم والنظر السدىد والتصور الصحيح، فينعكس ذلك على سلوكه؛ لأن سلوك الإنسان في الحياة مرتبط بتفكيره ارتباطاً وثيقاً: يستقيم باستقامته، ويعوج باعوجاجه، ويثمر بإثماره، ويعقم بعقمه، وأفعالُه ناشئة عن اعتقاداته، وأقواله إعراب عن تلك الاعتقادات.

ومن جهة أخرى؛ فإن الطالب الذي يتفقه في القرآن يمر على جميع الآيات القرآنية فيتكامل الموضوع لديه؛ لأن موضوع الآيات ومقاصدها ليست منسوقة في موضع واحد، وليست الآيات في سياق واحد؛ فتجد أن الآية أو الآيات مفصولة عن الأولى بجملة من الآيات، وهي في الموضوع نفسه، وقد تكون ناسخة، وقد تكون منسوخة، وقد تكون بياناً وتفسيراً، وقد تكون قيداً، وقد تكون إجابة عن شبهة؛ والأمثلة على هذا النمط كثيرة، منها قوله ـ تعالى ـ: ((قُلْ إنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ)) [ص: 65] هي جواب لقول كفار قريش في صدر السورة: ((وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ)) [ص: 4]، وقوله ـ عز وجل ـ في آخر السورة: ((وَمَا مِنْ إلَهٍ إلاَّ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا العَزِيزُ الغَفَّارُ)) [ص: 65، 66]، هي جواب لقولهم في صدر السورة: ((أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهاً وَاحِداً)) [ص: 5]، وقوله ـ جل وعلا ـ في آخر السورة: ((قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ)) [ص: 67، 68]، هو جواب وتفنيد لقولهم في صدر السورة: ((مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي المِلَّةِ الآخِرَةِ إنْ هَذَا إلاَّ اخْتِلاقٌ)) [ص: 7]، هذا ما وقع في السورة الواحدة نفسها، وبين إثارة الشبهة والجواب عنها أكثر من ستين آية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير