ومن ناحية الارتقاء بنظرية من النظريات وجعلها حقيقة علمية نجد قوله تعالى:) أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ (؛ وهو ما نجده في نظرية تفسير نشأة الكون بالانفجار العظيم، وهو ما يرتفع بهذه النظرية إلى مصاف الحقيقة.
الحقيقة العلمية والحقيقة القرآنية
** ما طرحته يثير إشكالية يجب التوقف أمامها؛ فما هي "الحقيقة العلمية" وما تعريفك لها؟ وكيف يمكنك وضعها بإزاء "الحقيقة القرآنية"؟ وكيف تفرق بين "الحقيقة العلمية" و"الحقيقة القرآنية"؟
* كثيرا ما يخلط الناس بين قضايا كثيرة .. القرآن الكريم ليس كتاب علم أو هندسة أو طب أو فلك، ولكنه كتاب هداية من الله للإنسان في القضايا التي لا يستطيع الإنسان أن يضع لنفسه فيها أي ضوابط؛ مثل قضايا العقيدة وكلها غيب، وقضايا العبادة وكلها أوامر، وقضايا الأخلاق والمعاملات وكلها سلوكيات، وهذه هي رسالة القرآن الأساسية.
أما ما جاء في القرآن غير ذلك؛ من إشارات كونية أو ذكر للأمم السابقة .. ، فكل هذه نماذج تأتي لتأكيد الفكرة الأساسية، وهي أن هذا الكلام كلام رب العالمين، وأقول إن الآيات الكونية في القرآن الكريم لم ترد للإنسان من قبيل الإخبار العلمي المباشر؛ لأن الله تبارك وتعالى يعلم أن العلم من المجالات التي يستطيع الإنسان أن يصل إليها بعقله وبجهده منفردا؛ فالقرآن الكريم هو بيان من الله تعالى للإنسان في القضايا التي لا يستطيع الإنسان أن يضع لنفسه أية ضوابط.
الحقيقة القرآنية هي غيب لا يمكن أن أصل إليه، أو أمر إلهي لا يمكن أن أحاكيه، أو ضابط أخلاقي سلوكي لا أخالفه، ما عدا ذلك من حقائق لا بد أن أرجع فيه إلى العلم الكسبي.
** لكن هناك مشكلة أساسية في تعريفك تتجاهل أن العلم في أبسط تعريف له هو "القابلية للخطأ" أو هو "الفرْض الذي أثبتت التجربة صحته"، وهذا مختلف تماما عن "الحقيقة القرآنية" التي هي "إطلاقية" و"نهائية" لا تقبل البرهنة عليها أساسا حتى يمكن أن نصفها بالصحة أو الخطأ؟ فكيف يمكن أن تطابق بين حقيقتين لا علاقة بينهما أصلا؟
* هذا كلام يقوله غير العلميين؛ لأنهم يتخيلون أن العلم كله فروض ونظريات، صحيح أن العلم يبدأ فروضا لكن الفروض قد ترتقي لتصبح نظرية، وترتقي النظرية لتصبح حقيقة، ثم تصبح الحقيقة قانونا، وإذا وصل العلم لمستوى الحقيقة فلا رجعة فيه ولا جدال.
** إحدى سمات العلم أنه تاريخي وله مراحل أو طبقات، فما كان حقيقة يوما ما، صار غير ذلك، وما هو فرض الآن ربما يتحول لحقيقة علمية يوما ما، وهناك ما يعرف بتاريخ العلم، بينما الحقيقة القرآنية مطلقة بمجرد نزولها من عند الله، وفي لحظتها، فهي متجاوزة للتاريخ، هي في كل لحظة حقيقة غير قابلة للاختبار أو المراجعة أو إعادة النظر، فما العلاقة بين الحقيقتين وكيف أمكنك المطابقة بينهما؟
* أقول هنا إنه إذا وصل العلم التجريبي أو الكشفي إلى مصاف الحقيقة أو القانون أصبح حقيقة يقوم عليها الدليل.
** هل تصل الحقيقة العلمية إلى حقيقة يجب الإيمان بها؟ هل نؤمن بالحقيقة العلمية مثلا؟
* طبعا طبعا .. وهل تشك في كروية الأرض الآن؟.
** وإذا قلت لك –فرضا- إنني لا أومن بحقيقة أن الأرض كروية فما رأيك؟ وما حكمي؟
** لا شيء!
** طبعا ستصفني بالجهل .. لكن ماذا إذا قلت: إن الله ليس واحدا (تعالى سبحانه علوا كبيرا)؟
* هذا كفر طبعا!
** إذن أنت تتفق معي أن هناك مستويين للحقيقة، وأنه لا يصح أن نتكلم عن تطابق بين الحقيقة العلمية والحقيقة القرآنية؟
* ولكن يا أخي تبقى الحقيقة حقيقة، الحقيقة هي كل أمر يقوم عليه الدليل ويدعمه البرهان وتؤكده الحجة ويقبله العقل السليم.
** هذا فيما يخص الحقيقة العلمية يا سيدي، ولا بد أن نفرق دائما بين العلم والنص الديني، العلم نسبي وتاريخي وطريق الوصول إليه التجربة والحكم على حقائقه بالخطأ والصواب، أما القرآن فهو مطلق لا تاريخي طريق الوصول إليه الوحي فقط، كما أن الحكم على حقائقه بالإيمان والكفر فهو لا يقبل البرهنة عليها أو تجريبها!
¥