وقد كان الاستنتاج السابق دافعا لنا للمقارنة والموازنة في شأن السلام على كل من النبيين الكريمين يحيى وعيسى عليهما السلام .. إذ ختمت قصة يحيى ب (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) .. بينما ختمت قصة عيسى بقوله (والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا).
حيث يلاحظ بأن السلام على يحيى جاء منكراً .. بينما كان السلام على عيسى معرفا بأل .. وهذا الأمر لفت انتباه المفسرين من قبل وحاولوا تفسيره بأكثر من طريقة .. فقد ذكروا مثلا أن السلام على يحيى وإن جاء منكرا فإنه أعظم من السلام على عيسى؛ لأنه تسليم من الله تعالى عليه .. أما السلام على عيسى فإنه تسليم من عيسى على نفسه، فهو وإن دل على الاستغراق لجنس السلام، فلا يبلغ سلام الله تعالى على يحيى .. وهذا التفسير ضعيف، في رأيي، لسبب بسيط وهو: أن عيسى نبي ويستحيل على النبي أن يخبر إلا بوحي من الله تعالى .. إنه يخبر عن غيب يوم يموت ويوم يبعث .. ثم إن عيسى عليه السلام قد أخبر بذلك وهو صبي في المهد .. وأنى له أن يتكلم بهذا الكلام أو بغيره، إلا إذا أنطقه الله تعالى وجعل الكلام على لسانه؟؟.
وقال المفسرون أيضا إن تعريف السلام على عيسى جاء لأنه أصبح معهودا بعد ذكر السلام على يحيى .. وقد يبدو هذا القول، على ضعفه، أقرب إلى الصواب من سابقه .. لكنه مثله يفسر السلام بالتحية.
إن العهدية تكون في سياق الكلام المتصل وليس بين كلامين في سياقين مختلفين ومتباعدين زماناً ومكاناً؛ فالأول جاء خطاباً من الله لمحمد ? حيث ابتدأت السورة بقوله تعالى (ذكر رحمة ربك عبده زكريا)، والثانية جاءت خطاباً من عيسى لقومه، فالأمر لا يتوقف عند حد ورود السلام على عيسى تالياً للسلام على يحيى في سورة مريم، ولهذا كان لا بد من البحث عن جواب أكثر إقناعا .. انطلاقا من أن السلام هو بمعنى السلامة من الأخطار .. وهذا يعني أن كلا النبيين الكريمين يعترض مسيرته عدد من الأخطار .. وبالذات حين المولد والموت والبعث .. لكن سلام الله تعالى يظلل هذه المسيرة وبالأخص المحطات الأكثر خطرا وحرجا وبروزا.
من المناسب هنا التفريق بين صيغتي التعريف والتنكير لغة .. فالتعريف يدل على العهد لافتا إلى الأمر المعهود المعروف .. أو يدل على الجنس شاملا ومستغرقا كل أفراده .. بينما التنكير يخبر عن الأمر المجهول .. لكنه يفيد معنى آخر يتغير بحسب السياق الذي يوضع فيه .. فكلمة حياة المنكرة في قوله تعالى (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) تفيد التهوين والتحقير والتصغير .. ولكن كلمة نساء المنكرة أيضا في قوله تعالى (وبث منهما رجالا كثيرا ونساءً) تفيد التكثير.
وعليه فإن تنكير سلام الله على يحيى يفترض أن يدل على عظمة هذا السلام وكثرته .. فضلا عن جهالته وعدم معرفته .. بينما يفترض أن يدل تعريف السلام على عيسى، على أنه أكبر وأنه تام وكامل، لأنه يستغرق جنس السلام .. إضافة إلى أن هذا السلام معروف ومعهود.
ميلاد يحيى ... وميلاد عيسى
فأما يحيى فإنه ولد من أم عجوز عاقر .. ومعروف أن المرأة كلما كبرت في السن .. فإن احتمال سلامة الولادة يكون أبعد وأضعف، وهذا الخطر يستدعي سلاماً على الوالدة وعلى المولود بشكل خاص، وفي شأن عيسى فانه سيولد من بكر في العراء، وبدون قابلة، والأم في حالة نفسية شديدة إلى الحد الذي تتمنى فيه الموت قائلة: (يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا).
وبالمقارنة بينهما نلاحظ أن الجو النفسي والعائلي المحيط بميلاد يحيى، وكذلك السعادة والاستبشار بقدوم المولود تجعل الأخطار المتوقعة أقل من الأخطار المحيطة بميلاد عيسى، وبالتالي فإن السلام الذي يحتاجه ميلاد يحيى أقل بالتأكيد من السلام الذي يحتاجه ميلاد عيسى عليهما الصلاة والسلام.
وقد لاحظنا كيف أن القرآن فصل في حادثة ولادة عيسى عليه السلام، منذ انتبذت به أمه (مكانا قصيا، فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا، فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا)،وما بعد ذلك إلى أن أتت به قومها تحمله، وهو بالتالي معروف ومألوف ومعهود.
ويوم يموت .. ويوم أموت
¥