(وجاء السحرة فرعون , قالوا: إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين؟ قال: نعم , وإنكم لمن المقربين)
إنهم محترفون. . . يحترفون السحر كما يحترفون الكهانة! والأجر هو هدف الاحتراف في هذا وذاك! وخدمة السلطان الباطل والطاغوت الغالب هي وظيفة المحترفين من رجال الدين! وكلما انحرفت الأوضاع عن إخلاص العبودية لله , وإفراده - سبحانه - بالحاكمية ; وقام سلطان الطاغوت مقام شريعة الله , احتاج الطاغوت إلى هؤلاء المحترفين , وكافأهم على الاحتراف , وتبادل وإياهم الصفقة: هم يقرون سلطانه باسم الدين! وهو يعطيهم المال ويجعلهم من المقربين!
ولقد أكد لهم فرعون أنهم مأجورون على حرفتهم , ووعدهم مع الأجر القربى منه , زيادة في الإغراء , وتشجيعاً على بذل غاية الجهد. . وهو وهم لا يعلمون أن الموقف ليس موقف الاحتراف والبراعة والتضليل ; إنما هو موقف المعجزة والرسالة والاتصال بالقوة القاهرة , التي لا يقف لها الساحرون ولا المتجبرون!
الدرس الرابع:115
ولقد اطمأن السحرة على الأجر , واشرأبت أعناقهم إلى القربى من فرعون , واستعدوا للحلبة. . ثم ها هم أولاء يتوجهون إلى موسى - عليه السلام - بالتحدي. . ثم يكون من أمرهم ما قسم الله لهم من الخير الذي لم يكونوا يحتسبون , ومن الأجر الذي لم يكونوا يتوقعون:
(قالوا: يا موسى , إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين. . قال: ألقوا)
ويبدو التحدي واضحاً في تخييرهم لموسى. وتبدو كذلك ثقتهم بسحرهم وقدرتهم على الغلبة. . وفي الجانب الآخر تتجلى ثقة موسى - عليه السلام - واستهانته بالتحدي: قال ألقوا. . فهذه الكلمة الواحدة تبدو فيها قلة المبالاة , وتلقي ظل الثقة الكامنة وراءها في نفس موسى. على طريقة القرآن الكريم في إلقاء الظلال , بالكلمة المفردة في كثير من الأحايين.
ولكن السياق يفاجئنا بما فوجىء به موسى - عليه السلام - وبينما نحن في ظلال الاستهانة وعدم المبالاة , إذا بنا أمام مظهر السحر البارع , الذي يرهب ويخيف:
فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم , وجاءوا بسحر عظيم.
وحسبنا أن يقرر القرآن أنه سحر عظيم , لندرك أي سحر كان. وحسبنا أن نعلم أنهم سحروا (أعين الناس) وأثاروا الرهبة في قلوبهم: (واسترهبوهم) لنتصور أي سحر كان , ولفظ "استرهب" ذاته لفظ مصور. فهم استجاشوا إحساس الرهبة في الناس وقسروهم عليه قسراً. ثم حسبنا أن نعلم من النص القرآني الآخر في سورة طه , أن موسى عليه السلام قد أوجس في نفسه خيفة لنتصور حقيقة ما كان!
ولكن مفاجأة أخرى تطالع فرعون وملأه , وتطالع السحرة الكهنة , وتطالع جماهير الناس في الساحة الكبرى التي شهدت ذلك السحر العظيم:
(وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك , فإذا هي تلقف ما يأفكون. فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون. فغلبوا هنالك , وانقلبوا صاغرين)
إنه الباطل ينتفش , ويسحر العيون , ويسترهب القلوب , ويخيل إلى الكثيرين أنه غالب , وأنه جارف , وأنه مُحيق! وما هو إلا أن يواجه الحق الهادىء الواثق حتى ينفثىء كالفقاعة , وينكمش كالقنفذ , وينطفئ كشعلة الهشيم! وإذا الحق راجح الوزن , ثابت القواعد , عميق الجذور. . والتعبير القرآني هنا يلقي هذه الظلال , وهو يصور الحق واقعاً ذا ثقل: (فوقع الحق). . وثبت , واستقر. . وذهب ما عداه فلم يعد له وجود: (وبطل ما كانوا يعملون). . وغلب الباطل والمبطلون وذلوا وصغروا وانكمشوا بعد الزهو الذي كان يبهر العيون:
(فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين). .
ولكن المفاجأة لم تختم بعد. والمشهد ما يزال يحمل مفاجأة أخرى. . مفاجأة كبرى. .
يتبع بإذن الله تعالى
ـ[شاكر]ــــــــ[16 Apr 2009, 07:47 م]ـ
(وألقى السحرة ساجدين. قالوا: آمنا برب العالمين. رب موسى وهارون)
إنها صولة الحق في الضمائر. ونور الحق في المشاعر , ولمسة الحق للقلوب المهيأة لتلقي الحق والنور واليقين. .
¥