كلام ابن كثير ههنا غريب لأمرين:
الأمر الأول: أن ابن جرير لم يرجح القول الأول الذي ذكر، بل صرح بأن الفلق يعم ما يقع عليه لفظه حتى إنه قال: (وجائز أن يكون في جهنم سجن اسمه الفلق).
وهذا نص كلامه:
قال محمد بن جرير الطبري (ت:310هـ): (والصَّوَابُ مِنَ القَوْلِ في ذلك، أن يقالَ: إن اللهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أمَرَ نبيَّه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقولَ: {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}. والفَلَقُ في كلامِ العربِ: فلَقُ الصبحِ، تقولُ العربُ: هو أبْيَنُ مِن فَلَقِ الصبحِ، ومِن فَرَقِ الصبْحِ. وجائِزٌ أن يكونَ في جهنَّمَ سِجْنٌ اسْمُه فلَقٌ. وإذا كانَ ذلك كذلك، ولم يَكُنْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَضَعَ دَلاَلَةً على أنَّه عنَى بقَوْلِهِ: {بِرَبِّ الْفَلَقِ} بعضُ ما يُدْعَى الفلقَ دونَ بعضٍ، وكانَ اللهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ ربَّ كلِّ ما خَلَقَ مِن شيءٍ، وَجَبَ أن يكون مَعْنِيًّا به كلُّ ما اسْمُه الفَلَقُ؛ إذْ كانَ رَبَّ جَمِيعِ ذلك). [جامع البيان: 24/ 741 - 745]
الأمر الثاني: أن مستنده في الترجيح لم يكن إلا اختيار البخاري وتوهمه ترجيح ابن جرير.
وهذا يثير الكلام على مسألة مهمة من مسائل قواعد التفسير وهي هل يؤخذ بترجيحات المحدثين فيما مستنده اللغة؟
والذي خلصت إليه بعد تأمل:
أن المحدث إذا كان عالماً باللغة ورجح قولاً على قول بمستند لغوي فقوله معتبر كسائر أقوال علماء اللغة، وينظر فيه كما ينظر في سائر المسائل اللغوية.
وإذا كان مستنده تصحيح الرواية عمن يحتج به فقوله يفيد صحة الرواية ما لم تكن معلة بعلة لم يتبينها.
وهذه القضية تحتاج إلى زيادة تحرير.
أما ما ذكرته من جميل قولك:" ثم في تطبيقه للقاعدة غرابة، فما الذي يخصص فلق الصبح دون غيره؟! " فقد أشار إليه الإمام الشوكاني في قوله": وقد قيل في وجه تخصيص الفلق: الإيماء إلى أن القادر على إزالة هذه الظلمات الشديدة عن كلّ هذا العالم يقدر أيضاً أن يدفع عن العائذ كل ما يخافه، ويخشاه .. ".
لعلك توافقني أن ما ذكره الشوكاني ههنا إنما هو التماس للحكمة من تخصيص الاستعاذة بوصف (رب الفلق) على اعتبار أن المراد بالفلق الصبح، وهذا ليس ترجيحاً يستند إلى مخصص لغوي وقد قيل نظيره في الأقوال الأخرى.
والذي يعتبر تخصيصاً لغوياً هو ما تفضلت بنقله عن الشوكاني في قولك:
إلا أني أتوقف عند النتيجة والثمرة المستفادة، التي قد تشكل - بعد طرحك ماتفضلت به- على البعض منا طلبة العلم، لأذهب مع رأي الجمهور، وهو ما تبناه الإمام الشوكاني ورجحه في قوله: " والقول الأوّل - أي: الصبح- أولى؛ لأن المعنى، وإن كان أعمّ منه وأوسع مما تضمنه لكنه المتبادر عند الإطلاق". ونعلم أنه (لا يجوز العدول عن ظاهر اللفظ، ومعهود لسان العرب في الخطاب) وهي قواعد مسلمة في أصول التفسير -كما هو معلوم –
هذا المخصص لو صحَّ تطبيقه هنا لكان حجة لغوية مقبولة بمعنى لو أن لفظ الفلق إذا أطلق تبادر إلى الذهن منه عند الإطلاق معنى الصبح لكان ذلك مرجحاً صحيحاً
لكن لفظ (الفلق) يستعمل في لسان العرب لعدة معانٍ صحيحة ولها شواهد كثيرة
1: فيطلق ويراد به الصبح، وفيه الشواهد التي تفضلت بذكرها، وهو إطلاق صحيح لا غبار عليه.
2: ويطلق ويراد به المكان المطمئن بين ربوتين ومنه قول أوس بن حجر: (وبالشول في الفلق العاشب)
وقول زهير: ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت أيدي الركاب بهم من راكس فَلَقَا
وراكس: واد معروف بين الحجاز وعالية نجد.
قال الأصمعي: (الفالق والفلق مطمئن من الأرض تحفه ناحيتان مرتفعتان).
3: ويطلق ويراد به مقطرة السجان
قال الخليل بن أحمد: (والقِطارُ: جماعة القَطْر، واشتق اسم المِقْطَرةِ منه لأن من حبس فيها صار على قِطارٍ واحد، مضموم بعضها إلى بعض، ويقال لها: الفَلَق، تُجْعَل أرجلهم في خروق، وكل خرق على قدر ساق).
وقد ذكر هذا المعنى جمع من علماء اللغة كأبي منصور الأزهري وغلام ثعلب وابن دريد والجوهري وابن خالويه
4: اللبن المتفلق الذي تميز ماؤه
قال الفيروزآبادي في تعداد ما يطلق عليه اسم الفلق: (وما يَبْقَى من اللَّبَنِ في أسْفَلِ القَدَحِ، ومنه يقالُ: يا ابنَ شَارِبِ الفَلَقِ).
¥