(هذا القسم الثاني لا وجود له في هذه الأيام، وهو صاحب السليقة العربية الخالصة، لم تكدرها العجمة، ولم تشُبها الهجنة، ولم يخالطها اللحن، وقد كان يوجد على أيام ابن مجاهد، أواخر القرن الثالث، وأوائل القرن الرابع).
3 - ومنهم من يؤدي ما سمعه ممن أخذ عنه ليس عنده إلا الأداء لما تعلم، لا يعرف الإعراب ولا غيره، فذلك الحافظ، فلا يلبث مثله أن ينسى إذا طال عهده، فيضيِّع الإعراب لشدة تشابهه وكثرة فتحه وضمه وكسره في الآية الواحدة؛ لأنه لا يعتمد على علم بالعربية، ولا بصر بالمعاني يرجع إليه، وإنما اعتماده على حفظه / وسماعه، وقد ينسى الحافظ فيضيِّع السماع، وتشتبه عليه الحروف، فيقرأ بلحن لا يعرفه، وتدعوه الشبهة إلى أن يرويه عن غيره ويبرئ نفسه، وعسى أن يكون عند الناس مصدَّقا فيحمل ذلك عنه، وقد نسيه ووهم فيه، وجَسَر على لزومه والإصرار عليه. أو يكون قد قرأ على من نسي وضيع الإعراب ودخلته الشبهة فتوهم، فذلك لا يُقَلَّد القراءة، ولا يحتج بنقله.
(هذا القسم الثالث هو من ينقل بلا فقه، ويروي بلا دراية، لا يؤمن عليه النسيان والخطأ، ولا يؤمن عليه الإصرار عليه، واللجاج فيه، وأخذ الناس عنه بلا بصيرة).
4 - ومنهم من يعرب قراءته ويبصر المعاني، ويعرف اللغات ولا علم له بالقراءات واختلاف الناس والآثار، فربما دعاه بصره بالإعراب أن يقرأ بحرف جائز في العربية لم يقرأ به أحد من الماضين فيكون بذلك مبتدعًا ". انتهى. (السبعة ص 45 - 46).
هذا القسم الرابع هو من له بعض الدراية لا جميعها، فله علم بالعربية، ولا علم له بالاختلاف وطرقه، وما ثبت منه وما لم يثبت، وما صح منه وما لم يصح، فربما ابتدع، وقرأ بلا أثر أو سند أو ثبوت. وفي مثل هذا المقام يقال: القراءة سنة متبعة، واقرؤوا كما علمتم.
موضع الشاهد في كلامه على القسم الأول، إذ فضله على الأقسام الأخرى، ووصفه بأنه المنتقد للآثار بعلمه وبصره.
وقال الداني (-444):
" وقراء القرآن متفاضلون في العلم بالتجويد، والمعرفة بالتحقيق، فمنهم من يعلم ذلك قياسًا وتمييزًا، وهو الحاذق النبيه، ومنهم من يعلمه سماعًا وتقليدًا، وهو الغبي الفهيه، والعلم فطنة ودراية آكد منه سماعًا ورواية، فللدراية ضبطها ونظمها، وللرواية نقلها وتعلمها، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم ". (التحديد ص 67).
الشاهد في جعله الدراية آكد من الرواية؛ لأنها الضابطة لها، المبصِّرة بها، الحاكمة عليها.
وشبه هذا النص في كتاب الرعاية لـ
مكي بن أبي طالب (-438)
وإنما قدمت نقله عن الداني لأنه صُدِّر في كتابه بالقول: قال أبو عمرو، ونسبه مكي إلى غيره ممن تقدم، مع أن مكيًّا أسن بست عشرة سنة، والله أعلم.
قال مكي: " وقد وصف من تقدمنا من علماء المقرئين القراء فقال: القراء يتفاضلون في العلم بالتجويد، فمنهم من يعلمه رواية وقياسًا وتمييزًا، فذلك الحاذق الفطن، ومنهم من يعرفه سماعًا وتقليدًا، فذلك الوهِن الضعيف، لا يلبث أن يشك ويدخله التحريف والتصحيف، إذ لم يبن على أصل، ولا نقل عن فهم. قال: فنقل القرآن فطنة ودراية أحسن منه سماعًا ورواية. قال: فالرواية لها نقلها، والدراية لها ضبطها وعلمها. قال: فإذا اجتمع للمقرئ النقل والفطنة والدراية وجبت له الإمامة، وصحت عليه القراءة، إن كان له مع ذلك ديانة " (الرعاية 89 - 90).
وقال ابن الباذش (-540):
" لكن ليس من أينعت له أيكة العلم فهو يهدِب، كمن اقتصر على رواية إليها يَنتدب، ذلك تمتع بالجنى، وتصرف بين اللفظ والمعنى، ودنا فتدلى، وكشف له عن أسراره فاجتلى. وهذا خازن أمين أدى، وظَرْف باطنه عَرْف نضح بما فيه وأندى، فحسبك منه ما بدا، وأن تجد على النار هدى ". (الإقناع 1/ 47). يهدب: يجني الثمر، ينتدب: يتبع ويستجيب. عَرْف: رائحة.
الشاهد في المفاضلة بين النوعين، وتفضيل الأول.
وقال المرعشي (-1150):
" لما طالت سلسلة الأداء تخلل أشياء من التحريفات في أداء كثير من شوخ الأداء، والشيخ الماهر الجامع بين الرواية والدراية، المتفطن لدقائق الخلل في المخارج والصفات - أعز من الكبريت الأحمر. فوجب علينا ألا نعتمد على أداء شيوخنا كل الاعتماد، بل نتأمل فيما أودعه العلماء في كتبهم من بيان مسائل هذا الفن، ونقيس ما سمعنا من الشيوخ على ما أودع في الكتب، فما وافقه فهو الحق، وما خالفه فالحق ما في الكتب ". (هذا النص في جهد المقل، وقد غاب عني موضعه فيه، فلو دلني من يعرفه من الإخوة على صفحته شاكرًا له).
وقال المرعشي أيضًا: " ولكن الله سبحانه وتعالى قد حفظ كتابه الكريم عن التحريف في كلماته، وفي كيفية أدائها، كما وعد، إذ وفق العلماء لحفظ كلماته، وتبيين صفات حروفه في مؤلفاتهم، بحيث إن من يطلب الحق يجده البتة. ثم إنه لا يجوز للشيخ المقرئ أن يكتفي بالتقليد من شيخه، بل يطلب معرفة صفات الحروف من الكتب المبسوطة " (كيفية أداء الضاد 25).
وقال الشيخ محمد تميم الزعبي:
" والعبرة في ذلك كله موافقة الرواية للدراية، وكثيرًا ما سمعت شيخنا عبد العزيز عيون السود - رحمه الله تعالى - يقول: يجب أن يوافق التلقين الكتاب. لأنه وللأسف الشديد قد يصيب التلقي وموازين الأداء بعض الخلل في نقل الألفاظ " (المقدمة الجزرية ص 39) ثم نقل عبارة المرعشي في جهد المقل مقرًّا لمعناها، مستشهدًا بها.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه وآله وصحبه والتابعين.
¥