تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[حرف الراء دراسة صوتية مقارنة ـــ د. عمر الدقاق]

ـ[عبدالرحمن الشهري]ــــــــ[18 Dec 2009, 04:17 م]ـ

من أشيع المقولات السائدة منذ (أرسطو) أن الإنسان حيوان ناطق، متكلم .. فاللغة سمة الإنسان وحده، وظاهرة بشرية اجتماعية حضارية، وهي مواكبة لوجود الإنسان من الأزل، وعمرها مقترن بعمره. والفكر واللغة متلازمان، لا وجود لأحدهما مستقلاً عن الآخر أو منفصلاً عنه. وحقيقة الأمر أن اللغة هي التفكير جهراً، والتفكير هو التكلم سراً ..

قال ابن جني (1): "حد اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم". والصوت عنده (2): "عرض يخرج مع النفس مستطيلاً متصلاً، حتى يعرض له في الفم والشفتين مقاطع تثنيه عن امتداده. فسمى المقطع (أي المخرج)، أينما عرض له، حرفاً. وتختف أجراس الحروف بحسب اختلاف مقاطعها ... : ومجمل القول "إن اللغة أصوات تفيد دلالات. وهي مجموعة من الرموز الدالة على أسماء وأفعال، وتؤلف النظام المتكامل للأصوات" (3).

آ ـ الحروف المنطوقة وقانون السهولة والصعوبة:

وقد توصل علم اللغة الحديث، ولا سيما الدراسات اللسانية Linguistiques والصوتية phonetiques إلى أن الأقوام السالفة الموغلة في القدم مرت في تطورها اللغوي خلال نشوئها السحيق بما يشابه المراحل نفسها التي يمر بها الأطفال في مجال نطق الحروف. فالبشر في عهودهم البدائية، لم يعرفوا أول الأمر سوى عدد ضئيل من الأحرف، وهي الأحرف الجوفية أو الصوتية، أي أحرف العلة. وذلك في مرحلة الصيد الغابرة التي شهدها العصر الجليدي. ثم تولدت لدى إنسان ذلك العصر بعد آماد طوال بعض الحروف التي تقع مخارجها الصوتية فيما بين الشفتين، أو ما كان قريباً منهما. وذلك لسهولة النطق بها، وهي الميم والباء والفاء والدال (4) ....

والمعهود في موازاة ذلك أن الأحرف الشفهية هي الأسبق ظهوراً على لسان الطفل الرضيع، وما ذلك إلا لأنها الأسهل نطقاً لديه، إذ لا يحتاج التلفظ بها إلى أية أسنان نابتة.

وبوسعنا القول، وعلى قدر واف من اليقين تبعاً لمعطيات علوم الصوتيات واللسانيات وعلم نفس الطفل والإنتروبولوجيا، إن ما فطر عليه الطفل البشري في أي مكان من الدنيا من مناغاته لأمه بالمقطع "ما" أو "مو" أو "مام" أو "مم" أو "مامي" أو "ماما"، أو ما شابهه، على ذلك الكائن الأنثوي لدى مختلف الأقوام وعلى صعيد معظم اللغات.

وعلى ذلك يكون حرف الميم أسبق الحروف قاطبة في النطق، ويواكبه أو يعقبه حرف الباء (5) ...

ولسهولة مخرج صوت الميم من الفم فإن بعض الحيوان يستطيع النطق به كما هو حال النعاج. وفي ذلك يقول الجاحظ في لفتة ذكية (6): "وأما الغنم فليس تقول إلا (ما) "، ويقول أيضاً: "والميم والباء أول ما يتهيأ في أفواه الأطفال، كقولهم ماما وبابا، لأنهما خارجان من عمل اللسان. وإنما يظهران بالتقاء الشفتين" (7) .. وبوسعنا القول تبعاً لما تقدم (8): "إن حرف الميم أو لفظ مام إنما هو اختراع أبدعه الطفل منذ الأزل، وسوف يدأب على ترديده إلى الأبد" ...

وبعدئذ تمكن الإنسان القديم عبر الحقب، وحين دخوله طور الرعي، من ابتداع سائر حروف الهجاء الأكثر تعقيداً، وفي عدادها حرف الراء ... ليتمكن ذلك الإنسان خلال تطوره المستمر من التعبير عن حاجاته المستحدثة، ومواكبة تجاربه المتنامية ...

وفي ضوء ما تقدم، ونظراً إلى أن الأقوام الغابرة وأن الأطفال جميعاً لم يستطيعوا عبر الأزمان التلفظ بحروف الكلام كاملة إلا تدريجياً وبعد ممارسات مديدة على الصعيد الفيزيولوجي، بوسعنا القول إن النطق بالحروف كان يتأتى في الأفواه تبعاً لمبدأ السهولة والصعوبة، حيث يتم فيها وفق مستويات متعددة يمكن اختزالها بزمرتين أو ثلاث من الحروف أولاها يسيرة على النطق، والأخرى عسيرة وثالثة بين بين ... فألسنة البشر، على اختلاف لغاتها، تكاد تتشارك جميعاً في نطق حروف بعينها، مثل الميم والباء واللام والنون والسين والشين والزاي والكاف ... وغيرها، باعتبارها الأسهل نطقاً، والأجرى على اللسان. على حين ثمة أحرف محددة أصعب على النطق في بعض اللغات، فتلفظها على نحو منحرف أو مغاير، وقد لا يكون لها وجود أصلاً في عداد أبجديتها، مثل: الغين والحاء والخاء والصاد والضاد والجيم والقاف والطاء والظاء ... ، وسواها من الحروف العربية. وفي الوقت نفسه قد يختلف نطق بعض الأحرف ضمن اللغة الواحدة على ألسنة العرب

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير