[الدراية حاكمة على الرواية]
ـ[محمد خليل الزروق]ــــــــ[20 Jun 2009, 09:41 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
نقل القرآن الكريم له جناحان لا بد منهما: الرواية والدراية، والمقصود بالرواية مشافهة القارئ لقارئ آخر يرتفع سنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يسمع منه القراءة ويعرض عليه ويقرَّه على قراءته، أو في الأقل يعرض عليه فحسب مع الإقرار. والمقصود بالدراية معرفة قوانين العربية التي منها أحكام التجويد ونصوص الكتب في اختلاف الأئمة التي هي مصنفات القراءات، وما يلتحق بها من رسم وضبط وفواصل.
والغرض الأصيل من الرواية في قراءة القرآن الكريم معرفة كيفيات النطق وإتقانها مما لا تحيط به العبارة، بدءًا من لفظ الحروف والحركات إلى ضبط أحوالها من تفكيك وإدغام، وإخفاء وتبيين، وتحريك وتسكين، وتسهيل وتحقيق، وتفخيم وترقيق، وتمييل وتقليل، وروم وإتمام، وإخلاص وإشمام.
والغرض الأصيل من الدراية التفقه في هذا المنطوق بمعرفة القواعد التي ينبني عليها، والأصول التي يرجع إليها، معرفةً نظرية محيطة به من كل جهاته، صوتًا وصرفًا ونحوًا وكتابًا واختلافًا واتفاقًا.
وهكذا وصل إلينا القرآن الكريم محفوظًا في الصدور، متلوًّا بالألسنة، مسموعًا بالآذان، ووصل إلينا مرسومًا في المصاحف، مبينة أحكام نقله، وحقائق نظمه، في مصنفات العربية والقراءة والرسم.
وكلا الطريقين الرواية والدراية مرجعه النقل، والفرق بينهما أن الرواية نقل عملي باللقاء والرؤية والسماع والعرض، وأن الدراية نقل علمي بالنص والتأصيل والتقعيد والقياس.
ولهذا اشترطوا في القراءة الصحيحة أن يجتمع لها شهادتان: ثبوت الرواية، وذلك صحة السند، وإقرار الدراية، وذلك موافقة الرسم والعربية.
وكما يكون العمل مضبوطًا بقواعد يرجع إليها، ومقيدًا بطرق يسير فيها، ومحكومًا بقوانين يُعرَض عند التنازع أو الخطأ عليها - تكون الرواية مضبوطة بقواعد الدراية، مقيدةً بنظامها، محكومة بقوانينها، راجعة عند التنازع أو الخطأ إلى أحكامها.
لأن الرواية بمعناها الذي شرحته غير معصومة من الخطأ، ويمكن أن يشيع الخطأ ويُنقل ويتطاول أزمنةً، ولا يقوِّمها إلا الرجوع إلى كتاب مكتوب، وعلم مكنوز، وذكر محفوظ، قد نقله الأئمة، ودراه الوعاة، وسطره في مصنفاتهم الرواة، كما يرجع التالي عند نَسْيه إلى مصحفه، وعند سهوه إلى كتابه، فالضعف يُقوَّى بالذكر، والخطأ يُقوَّم بالعلم، والنسيان يُكمَّل بالكتاب.
فإذا تعارضت الرواية والدراية، وتناقضتا تناقضًا بينًا صريحًا - كان هذا دليلاً على أن المعمول به خطأ، وأن المقروء به لحن، فيؤخذ حينئذ بالنص والفقه فيه، فإن لم يكن ذلك بأن تمسك القارئ بما هو عليه مخالفًا للقواعد والأصول والنصوص - لم يكن لهذه القواعد والأصول والنصوص معنى، وكان عدمها كوجودها، وبطلت العلوم، وسقطت الكتب، وعُطلت النصوص.
وهذا الذي شرحته ليس بدعًا من القول، ولا محدثًا من الرأي، ولا جديدًا من المذهب، بل هو ما تدل عليه أقاويل العلماء، وتشير إليه شروح الأئمة، وتنبئ به سطور الكتب. ولولا قلة الفراغ، وزحمة الأعمال، وانشغال البال - لاستقصيتها لك، وأحضرتها إليك، وعرضتها عليك، فترى فيها علمًا راسخًا، وفقهًا راشدًا، ونظرًا ثاقبًا، ونصحًا بليغًا. وسأنقل لك ما تيسر منه وأعلق خلاله بين قوسين، أو بعده.
قال ابن مجاهد (-324):
" وحملة القرآن متفاضلون في حمله، ولنقل الحروف منازل في نقل حروفه ...
1 - فمن حملة القرآن المعرب العالم بوجوه الإعراب والقراءات، العارف باللغات ومعاني الكلمات، البصير بعيب القراءات، المنتقد للآثار، فذلك الإمام الذي يَفْزَع إليه حفاظ القرآن في كل مصر من أمصار المسلمين.
(هذا القسم الأول هو ما ينعتونه بالإمام الكامل، الذي يروي ويدري، وينقل ويفقه، فيطير بجناحين، وينظر بعينين، ويمسك بيدين، ويمشي على رجلين، ينتقد ما يرويه، ويُبصر عيب ما يصل إليه، بعلمه بالعربية واللغة، وخبرته بطرق القراءة).
2 - ومنهم من يعرب ولا يلحن، ولا علم له بغير ذلك، فذلك كالأعرابي الذي يقرأ بلغته، ولا يقدر على تحويل لسانه، فهو مطبوع على كلامه.
¥